مقالات كل العرب

الشهداء يحررون الاحياء

شارك

الشهداء يحررون الاحياء

أ. عيسى قراقع

الاسرى الفلسطينيون كانوا بحاجة الى حرب، فلا يوجد شعب في الدنيا يرى الالاف من ابنائه وبناته يقتلون ويعذبون ويهانون ويغتصبون وتدمر حياتهم في السجون والمعسكرات ومسالخ التحقيق والتوقيف ويبقى صامتاً، ولا يقبل أي شعب حر على وجه هذه الارض ان يعود اسراه من السجون جثثاً بعد ان مزقهم زمن السجن الثقيل واطبق الموت عليهم حتى الفناء.
الاسرى الفلسطينيون كانوا بحاجة الى حرب، لان السجون تحولت الى مكان للابادة الانسانية، وكان لابد ان تغلق اقسام جهنم، ويخرج المعذبون من حطامهم وامراضهم ويستعيدوا ولو قليلا اعمارهم المهدورة، وكان على حبل المشنقة الذي يسمى المؤبد ان يسقط ، وتتحرر الرقاب من الشنق والخنق والذبح والانسحاق، قال تعالى: ما كان لنبي ان يكون له اسرى حتى يثخن في الارض.
رأيت في اتفاق وقف اطلاق النار يوم 19/1/2025 بوقف المجازر الدموية في قطاع غزة وتحرير الاف الاسرى من ذوي الاحكام العالية والمرضى والنساء والأطفال انتصاراً للحضور على الغياب، ورأيت الفرح الفلسطيني يبزغ من وسط الازمات والرماد والكوابيس، فلا يندهش احد من الفرح الاستثنائي وسط كل هذا الألم، الفرح مقاومة، فرح الضحية التي اعلنت انتصارها على القاتل والجلاد، انها قيمة الحرية الخارجة عن حسابات موازين القوى ، ولولا هذه القيمة لما بقي الشعب الفلسطيني صامدا على ارضه متمسكا بحقوقه منذ النكبة حتى الان.
دعوا ام الاسير تغني وتفرح، دعوها تجلس فوق بيتها المدمر في غزة وتزرع وردة بين الركام، دعوها ترى الأمل في اليوم التالي، تعانق ابنها وتسند قلبها الصابر حتى لا ينهار، هكذا نحن الشعب الفلسطيني، هذا ما يميزنا عن غيرنا، يبزغ البديل من وسط الخراب، نسمع اغنية وسط عاصفة الموت والمجزرة ، فلماذا تغضب الثقافة الجديدة البائسة عندما ازور نفسي الشهيدة وأقرأ على روحي السلام .
يرونها بعيدة ونراها قريبة وانا لصادقون، واني ارى النور في نهاية النفق، هذه كلمات الشهيد الرئيس ابو عمار، قالها في احلك الظروف الذي مر بها الشعب الفلسطيني، هذه الكلمات تحولت الى ثقافة وصمود ونشيد وأفكار وانتفاضات ومرجعيات روحية لشعب الجبارين، فإما ان نكون او لا نكون، فلا خيار لنا سوى بلوغ ذلك البصيص من الامل في نهاية هذا النفق المظلم.
الشهداء حرروا الاحياء، وحرروا انفسهم من مقابر الارقام والثلاجات الباردة، نهضوا من تحت اكوام الانقاض، حرروا اللحم والعظام والصوت من الاخفاء والنسيان، ولعل اكثر من 95% من صفقات التبادل وتحرير الاسرى جاءت بعد حروب ومعارك وتضحيات، فالحرية تنتزع انتزاعاً من براثن الاحتلال، فلا تقاس حرية أي شعب بالأرقام ، وكان الشهيد الاسير المفكر وليد دقة قد قال يوماً: حرروا الشهداء الاسرى وحرروا الاسرى الشهداء، حرر نفسك بنفسك، ولم يسمح لهم ان يكتبوا السطر الاخير قبل استشهاده ، فعاد الشهداء والاسرى الى رام الله وهذا ما يجب ان يكون.
نحن اكثر الشعوب الذي اجترحت قرارات دولية تساند حقوقنا العادلة والمشروعة، ولكن هذه القرارات بقيت عاجزة وقاصرة على ازاحة الاحتلال من حياتنا وارضنا وحماية اسرانا، والى حين يستيقظ القانون الدولي ويكون له مخالب علينا ان نكون اقوياء، نستعيد قوانا حبة حبة وننهض خطوة بخطوة، نستعيد صرخة ذلك الشهيد وذلك الاسير، ولنختار الموت العالي اذا كان لابد من الموت، ذلك الموت الذي يأخذنا في الشعاع النوراني روحاً وذاكرة.
اصيبت دولة الاحتلال بالجنون وبالهوس، يلاحقون عائلات الاسرى ويمنعون الاحتفالات والاستقبالات، اغلقوا الضفة الغربية والقدس بالبوابات والحواجز، سور حديدي يشبه اسوار السجون، ويبدو انه كلما ابتسمت الضحية غضبت تل ابيب ومتطرفيها ومستوطنيها، وهناك على حاجز عطارة في رام الله اوقفت جندية صهيونية محمود درويش وسألته: الم أقتلك؟ قال لها: قتلتني ونسيت مثلك ان اموت
لنقاتل بالفرح، ونرفع شعار الانتصار، لنضمد جروحنا ونتوحد موتاً وحياة، الاحياء عادوا بعد سنوات طويلات، عادوا ليبنوا البيت ويدفنوا الشهداء، فلنستقبل محمد الطوس ونائل البرغوثي والاف الاسرى الخارجين من تحت الارض، ونرفع الرايات، ونكتب لمروان البرغوثي واحمد سعدات ان ارضكم دافئة والسماء.
عندما زرت الاسيرة القائدة خالدة جرار قالت: انها منذ 150 يوماً لم تر احدا تكلمه، لقد قبعت في زنزانة انفرادية ضيقة ومخنوقة، وعندما أفرج عنها ورات الناس بدأ صوتها يستعيد ايقاعه وسخونته في ليل رام الله البارد والمحاصر بالدبابات.
وعندما زرت مزيونة والدة الاسير ناصر ابو سرور الذي يقبع منذ 32 عاماً في السجون قالت لي: الان شفيت من الجلطة الدماغية التي أصابتني ، وسأظل قوية حافظة لوصية ابني ناصر الذي قال لي: امي ارجوك لا تموتي قبلي ، الاسير المشلول منصور موقدة المحكوم بالسجن المؤبد صنع سيارة داخل السجن ، فعندما كان يخرج الى الساحة على عجلته المتحركة كان الاسرى المصابين والجرحى الذين صادرت إدارة السجون عكازاتهم يستقلون عربته ويتحركون في الساحة وهو يدور بهم عكس عقارب زمن السجن، فالجرح يداوي الجرح، والساق الخشبية لن تنسى الساق البشرية وهي تسير الى البيت.
جرحنا أحق بالكلام من ضآلة لغتنا السياسية التي بقيت بعيدة عن ما جرى وما يجري، يبدو اننا نفتقد الى ثقافة المعاني، فصورة البطل فينا تفوقت على صورة النصوص المخيبة، صحيح ان الصهيوني يحمل مدفعا وصاروخا وقنبلة لكنه لا يمتلك الإرادة، على عكس الفلسطيني الذي لا يحمل صاروخا ولكنه يمتلك الإرادة.
الاسرى كانوا بحاجة الى حرب، ومن لم يدخل السجن لا يعرف معنى الحرية، متمنياً ان ترتقي لغة الكتابة بعد الحرب على غزة الى لغة الشهداء، وان تكون لغة قادرة على رؤية هؤلاء البشر الذين يقبعون خلف القضبان، ما هذه التحليلات القاتمة والغامضة والمهلكة؟ فالطريق الى الحرية لا تحتاج الى عبقريات سياسية، الحرية تحتاج الى مقاومة، الحرية لا تحتاج الى كل هذا الجدل، الطريق واضح فإما ان تموت طبيعياً بإرادة الهية، واما ان تموت شهيداً في معركة تحرر وطني، لا وسطية في الموقف، غير مسموح ان يعبث أي احد بكل هذا الموت الشريف، فإما حياة تسر الصديق واما ممات يغيظ العدا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى