“وداعًا يا انت، لأنك لم تعد أنا”
“وداعًا يا أنت، لأنك لم تعد أنا”
د. تهاني رفعت بشارات
ذات يوم، دخل حياتها كالوعد المنتظر، كالمطر الذي يهطل على أرض عطشى، أقسم أن يكون لها العوض عن كل خذلان، أن يكون السند حين تشتد العواصف، واليد التي تمسح الدمع قبل أن يسقط. صدّقته كما يصدّق القلب نبضه، منحته من روحها بغير حساب، كانت له الأخت والصديقة، الحبيبة والملجأ، حملت وجعه كما يحمل الجفن دموعه، وحين شُفي وتعافى.. كان أول من غادر، كأنه لم يكن يومًا، كأنها لم تكن.
لم تتركه في محنته، كانت السند حين كان هشًا، الحائط الذي استند إليه حين تهاوى. أنصتت لأدق تفاصيله، حفظت همسه وصمته، جعلته أول دعواتها وآخرها. وحين احتاجت إليه، حين تعثرت بها الحياة، وحين أوجعتها الأيام كما أوجعته سابقًا، لم يكن هناك، لم يلتفت، لم يسأل حتى: “هل أنتِ بخير؟” بل تركها وحيدة، تتخبط في وجعها، تتهالك تحت ثقل الخذلان.
مرت الأيام، وكانت تُعاتب نفسها قبل أن تعاتبه: لماذا أتى؟ لماذا سمحت له أن يصبح كل شيء؟ لماذا جعلها تراه وطنًا، وسندًا، وأمانًا؟ كيف صدّقت وعوده؟ كيف أحبته حتى شعرت أنه منها، كجزء من روحها؟ كيف كانت تناديه “يا أنا” وهي لم تدرك أنه لم يكن سوى سراب؟
لم تجد إجابات، لكن ما وجدته كان أقسى.. وجدت نفسها وحيدة، تحمل جرحًا لم تظن أنه سيلتئم أبدًا. مرت الليالي حالكة السواد، كانت تظن أنها لن تنجو، لكن الله لم يخذلها كما خذلها البشر. شيئًا فشيئًا، بدأ الألم يتراجع، واستعاد القلب عافيته، وعادت الحياة تسير دون أن تتوقف عند غيابه.
لا تنكر أنها عاشت شيئًا جميلاً، وشعورًا غمرها حد الامتلاء، لكنها أدركت بعد الألم أنه كان درسًا قاسيًا، بل هو الدرس الذي لن تنساه ما حييت. كانت تلك المرة الوحيدة التي سمحت فيها لقلبها أن يقود، متجاهلة صوت عقلها، فندمت كثيرًا. غير أن الله، بلطفه، يمنح القلب القدرة على التعافي، يبعث في الروح طمأنينة تمحو آثار الشوق والحنين، يجبر كسرها حين تظن أنها لن تُشفى أبدًا، لأن الله يريد لها أن تحيا من جديد، أن تدرك أن ما كان لو كان خيرًا لبقي.
اليوم، لن يجدها مرة أخرى، فقد غدا غريبًا كما لو لم يكن يومًا، ظلًا عابرًا لا يعني لها شيئًا. سيكون ذنبًا لن يُغفر، وحلمًا لن يتحقق، لأنه خذل القلب الذي احتضنه يومًا، وخسر الروح التي كانت له وطنًا. سمّته ذات مرة “روح الروح”، ومرات كثيرة “يا أنا”، لكنه لم يكن سوى وهمٍ تلاشى حين استعادت نفسها.
شكرًا له، لأنه علمها درس العمر، لأنه جعلها تدرك أنها لم تكن بحاجة إليه يومًا، بل كانت بحاجة إلى أن تُحب نفسها أكثر، أن تختارها كما اختارته، لكن هذه المرة.. دون ندم.
واليوم، لم يعد في قلبها مكان له، لم يعد صوته يرن في ذاكرتها، ولا وجهه يزور أحلامها. محته من وجدانها كما يُمحى أثر الدمع عن وجنة يابسة، سامحته لا لأنه يستحق، بل لأنها تستحق السلام. سامحته لأنها أدركت أن العفو ليس ضعفًا، بل تحررًا من سلاسل الماضي، وألقت خلفها كل ما كان.
لم تعد تبكيه، لم تعد تحبه، لم تعد تشتاق إليه. لقد أُغلقت الصفحة تمامًا، وأُحرقت كل الذكريات. اليوم، هي أقوى، أكثر وعيًا، أكثر إدراكًا أن الحب ليس تضحية حتى الفناء، وأن العطاء لا يكون إلا لمن يستحق.
سامحته حتى لا يكون لهما عند الله لقاء، وتخطّته بصعوبة، تخطّته كجندي يتخطى جثث أصدقائه ليكمل الحرب ويعود للحياة.
وداعًا يا أنت، لأنك لم تعد أنا.