الوئام و مراحل التفاهم و الألفة بين البشر

الوئام و مراحل التفاهم والألفة بين البشر
د. محمد بن احمد ابن غنيم المرواني
العلاقات الإنسانية كالموسيقى، تبدأ بنغمات متفرقة ثم تنسجم شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى أعذب الألحان. إنها رحلة تتدرج بين مراحل مختلفة، من عدم الرفض إلى القبول، فالتعاطف، فالمودة، فالتفاهم، فالتوافق، وأخيرًا الوئام. ولكل مرحلةٍ سحرها الخاص، لكنها جميعًا تشكّل سلمًا نصعده نحو العلاقات الأكثر عمقًا وإنسانية.
المرحلة الاولى
عدم الرفض: البداية الصامتة
في أولى مراحل أي علاقة، لا يكون هناك تقارب حقيقي، بل مجرد غياب للرفض. إنها تلك اللحظة التي لا نشعر فيها بالنفور من الآخر، لكننا لم نصل بعد إلى مرحلة القبول أو الاهتمام. قد تكون علاقة سطحية بين زميلين في العمل، أو شخصين يلتقيان صدفةً في مناسبة اجتماعية، حيث لا يوجد رفض لوجود الاخر، لكن لا يوجد انجذاب أو اهتمام أيضًا.
المرحلة الثانية
القبول: خطوة أولى نحو التواصل
القبول هو أول شعور إيجابي حقيقي تجاه الآخر. هو عندما نجد أن وجود هذا الشخص لا يُثقل علينا، بل ربما يصبح مألوفًا أو مريحًا. في هذه المرحلة، تبدأ العلاقة بأبسط صورها: كتحية يومية، أو حديث مقتضب، أو حتى اهتمام غير معلن. القبول هو الباب الأول الذي إن فُتح، سمح للعلاقة بالنمو.
المرحلة الثالثة
التعاطف: بداية الإحساس بالآخر
هنا تبدأ المشاعر تأخذ منحىً أعمق. التعاطف يعني أننا نشعر بمشاعر الآخر، نحزن لحزنه حتى بدون ااظهار لذلك، ونفرح لفرحهو أن اخفيها هذا الفرح، قد يكون تعاطفًا إنسانيًا عامًا، أو نابعًا من تقارب شخصي. و لكن في هذه المرحلة، تبدأ العلاقة تتجاوز الشكلية إلى شيء أكثر دفئًا، حيث يصبح الآخر أكثر وضوحًا في وعينا، ونبدأ في مشاركته همومه وأفراحه.
المرحلة الرابعة
المودة: دفء العلاقة ونضوجها
المودة هي لحظة التقاء الانفس و القلوب بلطف وصدق. إنها المرحلة التي نشعر فيها براحة حقيقية في وجود الآخر، ونرغب في أن نبقى قريبين منه. و نحس بالراحة و الطمأنينة حتى و انا طال تواجد هذا الشخص بقربنا ، هنا تبدأ الابتسامات الصادقة، والمحادثات الطويلة، والاهتمام العفوي الصادق. و الاحساس بالاخر و تفهم مشاعره ، المودة تجعل العلاقة أكثر استقرارًا وعمقًا، وتكون علامة واضحة على أن هناك رابطًا خاصًا نمى بين الطرفين.
المرحلة الخامسة
التفاهم: لغة غير منطوقة بين الأرواح و القلوب
التفاهم هو مرحلة الإدراك العميق للآخر. هنا، لا يصبح من الضروري شرح كل شيء، فهناك لغة مشتركة تُفهم بين الطرفين دون الحاجة إلى كثير من التفسير. في هذه المرحلة، يعرف كل طرف متى يقترب ومتى ينسحب، متى يتحدث ومتى يصمت. التفاهم يجعل العلاقة أكثر سلاسة، حيث يقل فيها سوء الفهم، ويزداد فيها الانسجام.
المرحلة السادسة
التوافق: عندما تصبح العلاقة جزءًا من الحياة
التوافق هو أعلى مراحل الارتباط التي قد يصل إليها كثير من البشر. هنا تتشكل العلاقة وفق احتياجات. كل طرف، وتتحقق معادلة متوازنة من العطاء والتقبل. و الفهم و الانسجام و التسامح، في هذه المرحلة يكون كل طرف قد فهم تمامًا شخصية الآخر، واختار أن يكون جزءًا من حياته لا لأن الظروف فرضت ذلك، بل لأن العلاقة أصبحت ملاذًا آمنًا وركيزةً ثابتة في الحياة.و لأن التعامل مع الآخر اصبح مريحا و سهلا و ممتعا
المرحلة السابعة
الوئام: ذروة الانسجام الروحي
الوئام هو القمة، هو ذلك الشعور العميق بالسكينة مع شخص آخر. في هذه المرحلة، لا يكون التفاهم مجهودًا، بل حالة طبيعية بين الطرفين. يسود السلام، وتصبح العلاقة مليئة بالطمأنينة، خالية من القلق أو التوتر. هنا، يصبح الشخصان كأنهما يكتبان ابيات قصيدة جميلة باعذب الكلمات الرقيقة، هنا حيث تنساب الحياة بينهما بانسجامٍ نادر الوجود.هنا تصبح الحياة بحد ذاتها متعة و نعمة و طمأنينة و راحة و سعادة.
فالوئام… نعمة نادرة ولكنها ممكنة ,لذلك سوف نغوص اكثر في الوئام لنتعرف عليه عن قرب
الوئام: سر السعادة في العلاقات الإنسانية
في عالم يموج بالصراعات والمشاحنات، تظل قيمة الوئام أسمى ما يمكن أن يسعى إليه الإنسان في علاقاته ما. إنه ذلك التفاهم العميق، الألفة الصادقة، والود النقي الذي يجعل الحياة أكثر دفئًا وأمانًا و سلاسة و سعادة. هو نعمة عظيمة، وعندما يتحقق بين شخصين، يصبح كأنهما يعزفان معًا سيمفونية متناغمة، حيث تنساب الألحان بلا نشاز، وتتناغم القلوب بلا صدام.
أهمية الوئام في العلاقات الإنسانية
الوئام ليس مجرد حالة من التوافق العابر، بل هو أساس العلاقات العميقة والمثمرة. فهو يمنح الشريكين – أكانا صديقين، زوجين، أو حتى زميلين في العمل – شعورًا بالراحة النفسية والطمأنينة و الامان و الثقة. عندما يسود الوئام، يصبح الحوار أسهل، والتفاهم أسرع، والمشاكل أقل حدة. فكل علاقة تحتاج إلى هذا الانسجام الروحي الذي يحوّل التواصل إلى متعة، والمواقف الصعبة إلى دروس، والخلافات إلى فرص للنمو.
كيف نحافظ على الوئام؟
تحقيق الوئام ليس مجرد مصادفة، بل هو فنٌ يحتاج إلى رعاية دائمة. فكما تحتاج الوردة إلى الماء والضوء لتنمو، يحتاج الوئام إلى مقومات أساسية ليستمر و يصمد، منها:
الاحترام المتبادل: لا يمكن للوئام أن ينشأ في بيئة ينعدم فيها الاحترام. كل طرف يجب أن يقدّر الآخر، أفكاره، مشاعره، ورغباته.
التواصل الصادق: الكلمات التي تُقال بصدق تفتح الأبواب المغلقة، وتقرّب القلوب. الحوار البناء هو حجر الأساس في أي علاقة متناغمة.
التسامح: لأن البشر ليسوا ملائكة، فلا بد أن تحدث أخطاء. لكن التسامح والقدرة على تجاوز الزلات هي التي تجعل الوئام يدوم.
المشاركة: سواء كانت في الأحلام، أو الطموحات، أو حتى اللحظات الصغيرة، فإن مشاركة الحياة تعزز التقارب وتقوي العلاقات.
إدارة الخلافات بحكمة: حتى في أكثر العلاقات انسجامًا، تظهر خلافات. لكن الذكاء يكمن في تحويل هذه الخلافات إلى فرص لفهم الآخر بشكل أعمق، وليس إلى معارك لكسر العزف المتناغم.
الوئام… نعمة عظيمة
حين يصل الإنسان إلى مرحلة الوئام مع شخص آخر، فإنه يختبر واحدة من أجمل نعم الحياة. فالعلاقة الوئامية تمنح الأمان العاطفي والراحة النفسية و الطمأنينة و السلام الداخلي للروح، وتجعل الأيام أكثر إشراقًا، والمواقف الصعبة أكثر احتمالًا. إنها كضوء القمر في ليل مظلم، أو كترتيلة لآيات عطرة هادئة تهدء الروح في أوقات التوتر.
لا شيء يضاهي الشعور بأن تجد شخصًا تفهمه ويفهمك، تنسجم معه دون مجهود، وتشعر بأن الحياة معه أكثر خفة وجمالًا. فحين يتحقق الوئام، لا تعود الكلمات ضرورية دائمًا، يكفي نظرة، لمسة، تنهيدة أو حتى صمت مشترك ليقول كل شيء.
فلنجد الوئام مع الشركاء و لنحافظ عليه في حياتنا، لأنه مفتاح العلاقات الناجحة، وسر السعادة و الطمأنينة الحقيقية.