استقرار الأنظمة العربية تحت مظلة القطب الأوحد: لماذا لا تغير امريكا سياستها تجاه إسرائيل رغم فظاعة الحرب في غزة؟

استقرار الأنظمة العربية تحت مظلة القطب الأوحد: لماذا لا تغيّر أمريكا سياستها تجاه إسرائيل رغم فظاعة الحرب في غزة؟
د. محمد بن احمد المرواني
في النظام الدولي الراهن، تهيمن الولايات المتحدة الأمريكية على مراكز القرار السياسي والاقتصادي والعسكري في العالم، باعتبارها القطب الأوحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. هذه الهيمنة لا تقتصر على التفوق العسكري أو النفوذ السياسي فحسب، بل تمتد لتشمل أدوات التحكم في النظام المالي العالمي، وسلاسل التوريد، وآليات العقوبات الاقتصادية، ومفاصل الشرعية الدولية. في هذا السياق، تتحرك معظم دول العالم، بما في ذلك العديد من الأنظمة العربية، وفق معادلة واضحة: القرب من واشنطن يعني الحماية والاستمرار.
الأنظمة العربية، التي تتفاوت في طبيعتها من دول تحرص على رفاهية مواطنيها الى انظمة الاستبداد الناعم وصولا إلى الحكم البوليسي الصريح، تدرك جيدًا أن البقاء في الحكم لا يتحقق فقط من خلال السيطرة الأمنية أو الدعم الشعبي، بل من خلال الحفاظ على علاقات متينة مع الولايات المتحدة. هذه العلاقة لا تُبنى غالبًا على مبادئ الديمقراطية أو حقوق الإنسان، بل على أساس الحفاظ على الاستقرار الإقليمي وخدمة المصالح الأمريكية، وعلى رأسها أمن إسرائيل.
من هنا، يتضح سبب حرص عدد من الأنظمة العربية على تجنّب الدخول في صدام مباشر أو حتى غير مباشر مع واشنطن، خصوصًا في الملفات الحساسة مثل القضية الفلسطينية. ومع كل أزمة في غزة أو تصعيد إسرائيلي، يتكرر المشهد ذاته: بيانات إدانة خجولة، غياب تام للإجراءات السياسية أو الدبلوماسية، وشارع عربي صامت تحت وطأة الخوف أو اللامبالاة القسرية.
لكن الصمت الشعبي لا يعني بالضرورة غياب الوعي. فالكثير من المواطنين العرب، وإن كانوا متضامنين وجدانيًا مع فلسطين، إلا أنهم يعيشون في ظل أنظمة لا تسمح بالتعبير الحر، وتُمارس القمع المنهجي بحق كل من يحاول الخروج عن السطر. هذه الأنظمة تبسط سيطرتها ليس فقط عبر أدوات الدولة، بل عبر تحطيم المجال العام، وتقييد المجتمع المدني، وتحويل أي تعبير عن الرأي إلى تهمة تهدد الأمن القومي.
وبالتالي، فإن غياب المظاهرات الشعبية، أو ضعف ردود الفعل الرسمية، لا يُقرأ في واشنطن كدليل على استياء كامن، بل يُترجم كعلامة على استقرار داخلي. وما دامت هذه الأنظمة قادرة على ضبط شعوبها ومنع أي اضطرابات، فإن الولايات المتحدة ترى أن مصالحها مؤمّنة، ولا تجد داعيًا لممارسة أي ضغط جدي على إسرائيل أو إعادة النظر في سياساتها بالمنطقة.
الحرب الأخيرة على غزة شكّلت اختبارًا واقعيًا لهذه المعادلة. فقد مضت العمليات العسكرية الإسرائيلية دون رادع حقيقي، وسط دعم أمريكي ثابت وصمت دولي واسع. الأنظمة العربية لم تحرّك ساكنًا خارج الأطر التقليدية، ولم تُقدم على خطوات مثل سحب السفراء، أو تعليق العلاقات، أو التهديد بالانسحاب من الاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. أما الشارع العربي، فقد بقي مغيّبًا أو خائفًا أو مرهقًا اقتصاديًا.
تُدرك واشنطن أن الضغوط الداخلية على الأنظمة العربية شبه معدومة، وأن تكلفة دعمها غير المشروط لإسرائيل لا تزال منخفضة طالما أن الشعوب لا تتحرك والأنظمة لا تحتج. بل إن انشغال العالم بملفات كبرى مثل الحرب في أوكرانيا، وتراجع الدعم الأمريكي لأوروبا، وتصاعد المواجهة الاقتصادية مع الصين، يجعل من الملف الفلسطيني أولوية مؤجلة على الساحة الدولية.
في المحصلة، فإن استمرار هذا الواقع يعني استمرار الدعم الأمريكي لإسرائيل دون حدود. وستظل مأساة غزة متواصلة ما لم تظهر مؤشرات حقيقية على اهتزاز الاستقرار في العالم العربي، إما بتحرك شعبي واسع النطاق يفرض نفسه على الإعلام والقرار الدولي، أو بتغير في سلوك الأنظمة الحليفة لواشنطن. وحتى ذلك الحين، فإن المعادلة ستبقى على حالها: استقرار الأنظمة، صمت الشعوب، ودعم أمريكي غير مشروط لإسرائيل.