الشرق و الغرب: في كتاب “عصفور من الشّرق” انموذجا

الشّرق والغرب: في كتاب “عصفور من الشّرق” أنموذجا
أ. أسماء المصفار
ينحى وصف الأثر الأدبيّ إلى تحديد معاني عناصر الأدبيّة فيه، بينما يسعى النّقد إلى منح تلك العناصر تأويلا وتحليلا بشكل حياديّ، فتحدّدُ طبيعة النّقد في هذا الموضع كونَه نشاط فكريّ يرصد عناصر تشكُّل العمل الأدبيّ وما يحتضنه من قيَم فيحكُم عليه ويُساهم في توجيهه. وتقترن وظيفة النّقد بتقويم العمل الأدبيّ من النّاحية الفنّيّة واستجلاء قيمته الموضوعيّة والتّعبيريّة والشُّعوريّة وتعيين مكانه وقياس درجة تأثُّره بالأوضاع التي سيقَ فيها تدوين العمل الأدبيّ من أوضاع اجتماعيّة واقتصادية وسياسيّة ونفسيّة… ذلك ما جعل جُلّ الباحثين في المجال الأدبيّ يُقرُّون بحقيقة مفادُها أنّ الأثَر الأدبيَّ هو حدَث تغلبُ عليه سمَة الذّاتيّة حينا وسمَة الحياديّة والموضوعيّة حينا آخر لأنّه إنتاج الإنسان التّاريخيّ والنّفسيّ والاجتماعيّ.
وإنّ ما دفعَنا إلى ذكر سمَات النّقد باعتباره نشاطا فكريّا يتناول الأعمال الأدبيّة بالدّرس لفكّ شفراتها واستجلاء مواقف أصحابها تقترن بكُلّ ما هو إنسانيّ، هُو ما لقيناه من مُيولات جُلّ الكُتّاب (الأُدباء) إلى إبراز مواقفهم من الآخر المُختلف عنهم في أعمالهم الأدبيّة استنادا إلى ما ينسبُونه إلى شخصيّاتهم الروائيّة، لتغدُوَ أعمالهم الروائيّة أعمالا نقديّة تبسط مواقف وتطرح أفكارا وذلك باحتكامهم إلى الجانب الحياديّ حينا والجانب الذّاتيّ حينا آخر. وسنعمَدُ في هذا الموضع من الدّراسة إلى ذكر أهمّ الكُتّاب الذين ألبَسُوا شخصيّاتهم الروائيّة بسمَة الحياديّة في أعمالهم الأدبيّة والذين نذكُر من بينهم توفيق الحكيم الذي عمَد إلى إبراز صُورة الأنا والآخر وضبط موقفه من الآخر (عبر ما عبَّرت عنه شخصيّاته الروائيّة) بشكل حياديّ في نصّه الموسوم بـ:” عصفور من الشّرق” الذي يُمثّل بأبعاده الفنّيّة والمضمونيّة خطابا إيديولوجيّا حياديّا بما يتضمّنه من ملامح معرفيّة فكرية ودلاليّة. ولعلّ أهمّ ثُنائيّة حرصَ توفيق الحكيم على طرحها في نصّه والتي انبنت على ما هُو حياديّ وموضوعيّ، هي ثُنائيّة الأنا والآخر أو الشّرق والغرب التي مثّلت أهمّ مَقولة في مشروعه الأدبيّ. فمفهوم الأنا في كتاب “عصفور من الشّرق” لم يُشكّل تمجيدا للذّات ورفضا للآخر بشكل كُلّيّ. ليكُونَ مُحصَّلنا من خلال ما عمَد إليه توفيق الحكيم في كتابه بناء على ما أبرَزه من مواقف من الغرب ومن الشّرق على لسان شخصيّاته الروائيّة، هُو اعتماده على الحيادية عند حديثه عن الحضارتَين العربيّة والغربيّة وعدم تمييزه بين كلتَيهما، إذ بنا نراه لم يكُن مُنحازا بشكل كُليّ إلى ذكر سلبيّات الحضارة الغربيّة دون أن يذكُر بعض سلبيّات الحضارة العربيّة. فقد ضجّ الحديث عن الآخر (الغربيّ) في الكتاب بشَكل حياديّ، باعتبار أنّ شخصيّة مُحسن قد حرصَت على ذكر ثورة 1919 بمصر والتي عمَد فيها الجنود البريطانيّون المُسلَّحون إلى الهجوم بالمدافع لاستعمار البلاد. وقد بدا موقفه من الحضارة الغربيّة في ما هُو جليّ في قوله التّالي:” أدركَ مُحسن معنى الحضارة الغربيّة الكُبرى التي بسَطت جناحَيها على العالم”. (الرواية. ص 19). وكما أنّ شخصيّة “إيفان” في “عصفور من الشّرق” العامل الرّوسيّ الذي جمَعته علاقة صداقة مع مُحسن (الشّخصيّة البطلة في الرواية) عمَدت إلى التّعبير عن واقع الحضارة الأوروبيّة التي غدَت في نظره تفرض نمَطا واحدا من الحياة على الذّوات الإنسانيّة. فإنّ توفيق الحكيم المُؤلّف قد عمل على إبراز رأيه في النّظام الرّأسمالي العربي كذلك من خلال ما ساقَه من مواقف قُدّمت على لسان شخصيّة مُحسن. وكما أنّ النّظام الرّأسمالي الأوروبيّ في نظَر الشّخصيّة الروائيّة (إيفان) قد قسَّم المُجتمعات الأوروبيّة إلى جُزأين: جُزء هاجسُه مُقترن بجمع الأموال، وجُزء مُنحصر في كونه مُجرَّد آلات لا غير. فقد لقيَ (النّظام الرّأسمالي) العربيّ أيضا نقدا مُماثلا من قبَل شخصيّة إيفان في النّص، باعتبار أنّ الشّرق في نظَره أضحى لا هُو شرق ولا هُو غرب، وإنّما هُو كما ورَد في الشّاهد النّصّيّ التّالي:” تلبَّسَ زيّ الغرب، على غير نظام ولا ترتيب ولا فهم ولا إدراك”. (الرواية. ص 191). لتظهرَ لنا في هذه الحال حياديّة توفيق الحكيم وموضوعيّته وذلك بعدَم انسياقه إلى إبراز صُورة مُثلى للشَّرق وصُورة للغرب قائمة على السّلبيّة، وإنّما قد عمَد إلى عدم الانحياز إلى هذه دون تلك وهنا يظهر الجانب الموضوعيّ في عمله.
كاتبة من تونس