مقالات كل العرب

أجساد مهاجرة بين الاستغلال والبقاء: سوق الجنس في فرنسا كخريطة جغرافية وعرقية للمعاناة

شارك

أجساد مهاجرة بين الاستغلال والبقاء: سوق الجنس في فرنسا كخريطة جغرافية وعرقية للمعاناة

أ. صراح الدالي

بين شوارع باريس وازقتها الممتدة من بورت دو فانسان مرورا بشارع ستراسبورغ سان دوني ووصولا الى غابات بولونيا الموحشة، تكتب عاملات الجنس قصص أجساد وُزعت على الخريطة حسب أصلها العرقي وأصبحت مسرحًا للصراع بين الاستغلال والفقر من جهة، والتنميط العنصري من جهة أخرى، في ظل سياسات تشريعية تُفاقم الهشاشة والعرقنة بدلًا من الحد منها.

تقول جاكلين وهي مهاجرة افريقية تبلغ سبعة وثلاثين عاما:
“أعيش كل يوم غارقة في خوف لا ينتهي وفقر يسحقني، جسدي لم يعد لي، أصبح وسيلتي الوحيدة للبقاء على قيد الحياة، ولا خيار أمامي سوى هذا الألم.”
تُخرج من جيبها حفنة من العملات المعدنية، تعدها بسرعة بينما تتحدث، كأنها تحاول التأكد من أن ما تبقى من كرامتها لا يضيع هباءً، وتواصل:
“ولأنني سوداء، أعمل بأجر زهيد وأواجه عنصرية مهينة ورقابة تخنقني. والأسوء جسدي كله لا يساوي حتى ثمن وجبة بسيطة.”

تندرج سوق الجنس في فرنسا ضمن سياق يجمع بين العولمة والهجرة من جهة والتقاطعات بين العرق والجنس والطبقة من جهة أخرى. ففي فرنسا، كما هو الحال في دول متقدمة أخرى، تغذى هذه السوق من خلال المهاجرات القادمات من دول تعاني من ضائقة اقتصادية، وتوزعهن على ارضها وتصنفهن وتسعّر أجسادهن حسب اصولهن العرقية والاثنية.

أجساد عابرة للحدود: حلم الهجرة الذي ينتهي في سوق قاسية

لا تقتصر سوق الجنس في فرنسا اذن على العاملين والعاملات المحليين؛ بل تركز اكثر على التدفقات الهجرية الدولية. لقد ساهمت العولمة في تسهيل حركة الأشخاص، والسلع، ورؤوس الأموال، ما شجع أيضًا على هجرة الأفراد الباحثين عن تحسين أوضاعهم الاقتصادية. وفي نفس هذا السياق، تصل نساء من دول فقيرة، خاصة من أوروبا الشرقية وإفريقيا وآسيا، إلى فرنسا بأحلام اقتصادية واجتماعية كبيرة وبهدف تحسين ظروف حياتهن.
ولكن، عند وصولهن إلى فرنسا، يصطدمن بحقيقة أكثر صعوبة مما توقعنها. فبسبب استبعادهن من سوق العمل وحرمانهن من الحقوق بسبب وضعهن الإداري، يجدن أنفسهن عالقات في واقع اشد قسوة من واقعهن في اوطانهن ومعرضات للاستغلال ولظروف عمل هشة، مما يدفع بعضهن للجوء إلى الجنس كوسيلة للعيش، اذ لم تترك هذه الوضعية الهشة لهن خيارًا آخرا، وكما أشارت الباحثة مارييلين ليبر في دراساتها، تختار العديد من النساء المهاجرات العمل في الجنس كـ “خيار مضطر”، أي كقرار يتخذ في ظل غياب بدائل أفضل. (1)
فأغلبهن ينظرن الى هذا العمل على أنه خيار أفضل من الوظائف القليلة المتاحة في قطاعات اخرى مثل التنظيف أو الخدمات المنزلية، وهي مهن تتميز بأجر منخفض وظروف عمل قاسية. وهكذا، قد تبدو سوق الجنس في أعين هذه النساء وسيلة أقل تقييدًا وشقاء للبقاء.
تقول أنستازيا، شابة في التاسعة والعشرين من عمرها من أوروبا الشرقية: “هربتُ من بلدي إلى هولندا، ثم إلى فرنسا، أبحث عن مهرب من الفقر. كنت أحلم بحياة أفضل، لكنني وجدت نفسي أسيرة واقع أشد قسوة، حيث اغلق في وجهي كل باب طرقته. لم يعد لدي أي خيار سوى الاستمرار في طريق لا أريده.”
تلمس بطنها و ذراعيها بشكل لا إرادي، وكأنها تشير إلى ما تعتبره سبب معاناتها، وتكمل لتروي كيف صارت مرفوضة بسبب اختلافها عن مقاييس العالم الذي تعيش فيه:
“كنت أعمل في الراد دستريكت في هولندا، لكنهم طردوني لأن جسدي تغير، لأنني أصبحت بدينة. حتى جسدي فقد قيمته كاملة بمجرد ما ان تغير…”

وتقول سمر وهي مهاجرة عشرينية من شمال افريقيا:
“عشت حياتي يتيمة، أتنقل بين المنازل أعمل خادمة. لم يكن هناك فرق كبير بين تلك المهنة وهذه، فكلاهما غارق في الشقاء والمهانة. في المنازل، كنت أُنهر وأُهان، يُعاملونني كأنني بلا مشاعر. الآن، في هذه المهنة، الإذلال مشابه لكنه أقصر زمنًا… لا يستغرق أكثر من ربع ساعة. في النهاية هذا حظي، كل ما أردته هو حياة كريمة، ولكني لم أنلها”.

تعكس شهادتا انستازيا وسمر الوضع الصعب الذي تواجهه آلاف النساء اللواتي يجدن أنفسهن محاصرات بين هشاشة وضعهن الاقتصادي والاجتماعي واستغلال لا يرحم. تشير التقديرات إلى أن حوالي 93% من العاملات في سوق الجنس في فرنسا هن من المهاجرات، وأغلبهن يعانين من ظروف غير مستقرة تدفعهن إلى اتخاذ خيارات قسرية، في غياب بدائل تضمن لهن كرامة العيش. (2)

سياسات تُعمّق الألم: كيف تعيد فرنسا تشكيل أجساد المهاجرات في سوق الجنس؟

لا يمكن مناقشة سوق الجنس في فرنسا دون الإشارة إلى السياسات العامة المتعلقة بها، اذ انها تخضع لتشريعات صارمة، فالإصلاحات الأخيرة، وخاصة قانون عام 2016 الذي يجرم عمل الجنس، قد غيرت هذه السوق وجعلت حياة العاملات أكثر صعوبة. فالعاملات وخاصة المهاجرات، اللواتي يعانين أساسا من الفقر والهشاشة، يجدن أنفسهن أكثر عرضة للمخاطر والاستغلال، حيث يضطررن للعمل في ظروف أكثر سرية مما يزيد من تفشي العنف والانتهاكات والضغط من الشبكات الإجرامية. وبالتالي أدى هذا القانون إلى تأثير عكسي: فبدلاً من تقليص العمل في الجنس، ساهم في جعل ظروف العمل أكثر خطورة بالنسبة للنساء اللواتي لا يملكن خيارا آخر سوى بيع خدماتهن الجنسية.
أشارت دراسة قام به معهد السياسة الاجتماعية الفرنسي وعدة مؤسسات اخرى، سنة 2018، إلى أن تطبيق هذا القانون أدى إلى زيادة حالات العنف ضد العاملات، إذ أن 62.9% منهن أعربن عن شعورهن بأن القانون يجعل عملهن أكثر خطورة، خاصةً المهاجرات اللواتي لا يتمتعن بوضع قانوني يسمح لهن بالبحث عن بدائل. (3)
تقول يينغ وهي مهاجرة آسياوية ثلاثينية:
“اضطررت للعمل في الغابات، هربًا من الشرطة التي تلاحقنا. لكن هذا المكان مرعب ومدمر: عنف، برد قارس، اعتداءات جسدية ونفسية، وفي أفضل الأحوال كلمات مهينة ومعاملة سيئة. حين أتعرض للاعتداء اللفظي فقط، أشعر وكأنني محظوظة. أفهم تمامًا ما يقوله الزبون، لكنني أتظاهر بعدم الفهم، كي لا يتمادى في تعنيفي، فكلانا يعرف انه يدفع ليتلذذ بذلك.”
تشير يينغ لبعض الكدمات والجروح على جسدها ثم تواصل:
“في البداية كنت أظن أن الألم الجسدي هو الأسوء، لكن مع مرور الوقت، أدركت أن الجروح النفسية أصعب بكثير. ليت الألم يتوقف عند الكدمات التي أراها في المرآة”

عرقنة الأجساد وتسعيرها: خريطة العنف والتمييز والتنميط

يُعتبر التأطير العرقي”ethnicization” والعنصري “racialization” لسوق الجنس في فرنسا من الديناميكيات الأساسية التي تُشكِّل تجارب العاملات في مجال الجنس، خصوصًا المهاجرات. يتجلى هذا من خلال الطريقة التي تُصنَّف بها عاملات الجنس من المهاجرات، والطريقة التي يُنظر إليهن بها ويُعامَلن بناءً عليها والتي ترتكز على أصولهن العرقية أو الإثنية. تؤثر هذه الصور النمطية العنصرية على التفاعلات بين العاملات في الجنس وزبائنهن، و أيضًا على كيفية تعامل السياسات العامة، ووسائل الإعلام، والمجتمع بشكل عام معهن أو تهميشهن.

تمتد هذه العنصرية أيضاً إلى الأسعار المتداولة في سوق الجنس. اذ أظهرت الأبحاث السوسيولوجية أن أسعار الخدمات الجنسية تختلف بناءً على الأصل العرقي للعاملات. فالأوروبيات غالباً ما يحصلن على أجور أفضل مقارنةً بالسوداوات أو الآسيويات، اللواتي قد تُخفض أسعار خدماتهن بسبب التصورات العنصرية والوصمات المرتبطة بأصولهن. وهكذا، فإن الأجساد المعرقلة عرقياً للعاملات في الجنس لا تستخدم فقط كأدوات للإشباع الجنسي، ولكن أيضًا كوسائل اقتصادية تخضع لقوانين العرض والطلب التي تشكلها الخيالات العنصرية. (4)

تقول يينغ بأسى:
“في عيون الزبائن، نحن الآسيويات مجرد سلع رخيصة، لا فرق بيننا وكأننا منتجات صينية رديئة. مهما قدمنا من خدمات، لن نحصل أبدًا على ما تحصل عليه الأوروبيات.”
وتقول سمر:
“ينظر إليّ الزبائن كأنني تجسيد لرغباتهم… يطلبون مني أحيانا الرقص او التكلم بطريقة معينة لأحقق لهم خيالاتهم. ومع ذلك، ما أقدمه يُقيّم دائمًا بالقليل. كأنني مجرد ‘شيء غريب’ يُستهلك بثمن بخس.”

تتواصل أيضا تداعيات هذا التأطير العرقي لتصنع خريطة واضحة للمواقع الرئيسية في باريس المرتبطة بأنشطة الجنس، فوفقًا لتقرير منشور في صحيفة “لو باريزيان”، يُحدد التوزيع الجغرافي للعاملات على لمناطق التي تشهد نشاطًا في هذا المجال حسب الاصل العرقي لهن. على سبيل المثال، تُهيمن العاملات من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وخاصة من نيجيريا، في منطقة شاتو-روج وماركادي، بينما تُعرف منطقة ستراسبورغ-سان دوني بوجود عاملات من الصين وأوروبا الشرقية. وتُظهر غابة بولونيا وجود عاملات من الإكوادور. (5)

يعتمد التأطير العرقي لسوق الجنس بالتالي على تنميطات اجتماعية تُسعر خدمات العاملات، وتُوزعهن جغرافيا، وتُجنّس وتُصنّف، أيضا، الأجساد بناءً على الأصل العرقي أو الإثني للنساء، ففي فرنسا، لا يبحث زبائن سوق الجنس عن الخدمة الجنسية فقط، بل يسعون أيضًا وراء تحقيق خيالاتهم وتصوراتهم التي ترتبط غالبًا بالصور النمطية العنصرية، التي تستند إلى أفكار التفوق والدونية العرقية، وتُشكِّل الطلب على بعض النساء بناءً على مظهرهن الجسدي وأصولهن.

فعلى سبيل المثال، غالبًا ما يُنظر إلى السوداوات القادمات من دول إفريقيا جنوب الصحراء أو منطقة الكاريبي، من خلال عدسة جنسية “غريبة” و”وحشية”. هذا التصور، المتجذر بعمق في التاريخ الاستعماري، يربطهن بصورة جنسية مفرطة وأحيانًا غير إنسانية، مما يجعلهن مُفرَطَات التَجَنُّس ومجردات من الإنسانية في نظر بعض الزبائن. ترتبط هذه التصورات بسرديات عنصرية تُجرد السوداوات من إنسانيتهن وتصورهن على أنهن بطبيعتهن أكثر جنسية وحبا للجنس، بل وأكثر رغبة من النساء البيض. (6)
تقول تاتيانا، شابة سوداء تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، من منطقة الكاريبي:
“يعتقد الكثيرون أنني موجودة فقط لتلبية رغباتهم الجنسية، وهذا يشعرني بالدونية طوال الوقت. يرونني من طبيعة متوحشة، ولايتوقفون عن وصمي بوحشية غرائزي.”

وتقول جاكلين في نفس السياق:
” يربطني الجميع بعنف وجنس مبالغ فيه. أتلقى دائما تعليقات تؤكد أنني أنتمي إلى فئة من النساء اللواتي لا يعرفن حدودا لرغبتهن الجنسية.”

تُظهر هذه الشهادة معاناة العديد من النساء السوداوات من التمييز العنصري والتحيز الجنسي الذي يربطهن بالصور النمطية الجنسية المفرطة. هذا التصور لا يعاملهن كأفراد، بل يُجردهن من إنسانيتهن، مما يزيد من صعوبة التجربة التي يواجهنها في هذا العمل.

على العكس، تُصَوَّر الآسيويات، القادمات من دول مثل الصين وتايلاند وفيتنام، غالبًا على أنهن خاضعات ومطيعات. هذا التصور مرتبط أيضًا بتاريخ طويل من الاستعمار والإمبريالية، حيث يُنظر إليهن على أنهن أدوات جنسية مُخصَّصة لإرضاء رغبات الرجال الغربيين. هذه الصور النمطية تجعلهن يظهرن في إطار جنسي أكثر هدوءً وخفيًا، ولكن دائمًا في خدمة خيالات الهيمنة الذكورية.(8) (6)
تقول يينغ متحدثا عن تجربتها: “بسبب لوني وأصلي أجد نفسي مضطرة لقبول الاعتداءات الجسدية. هذا هو واقع السوق، والقوانين التي تحكمه، ولا أحد يستطيع تغييرها. أعلم جيدًا أن الزبون لم يلجأ إليّ من باب الاهتمام بي، ولا أعتقد أنه يفضلني على غيري من النساء الأكثر جمالًا وجاذبية، هو فقط يبحث عندي… أو ربما عندنا نحن الآسيويات… عن رغبات وخيالات محددة”

أما القادمات من دول أوروبا الشرقية، مثل رومانيا وبلغاريا وأوكرانيا، فغالبًا ما يُرتبطن بصورة “الفقيرات”، المتاحات نتيجة لأوضاعهن الاقتصادية الصعبة. بياضهن يُجنبهن بعض الوصمات العنصرية الأكثر حدة، إلا أنهن ما زلن يُعتبرن مهاجرات ضعيفات مستعدات لفعل أي شيء للهروب من الفقر، مما يجعلهن عرضة لأشكال اخرى من الاستغلال. (6)
تقول أنستازيا: “يعلم كل من يأتي هنا أننا نعمل لنأكل، يعرف جيدًا أن الفقر هو السبب وراء وجودنا هنا، ويستغل ذلك ليساومنا على أجسادنا.”

وبالنسبة للقادمات من شمال إفريقيا أو العربيات فيُنظر اليهن من خلال منظور الاستشراق، وهو تصور موروث من الفترة الاستعمارية، حيث يتم تهميش وتجنيس أجسادهن وجنسانيتهن. فيُنظر إليهن بشكل متناقض كنساء “غامضات” و”مطيعات”، أو كـ”مغريات” شرقيات، جاهزات لتلبية رغبات الرجال الغربيين.
يستند هذا التصور الاستشراقي إلى تقاليد طويلة من تصوير النساء العربيات والبربريات كأجسام غامضة لدى الرجل الأبيض، ترتبط بصورة المرأة المحجبة مثلا، أو الجارية أو الراقصة الشرقية. هذه القوالب النمطية تُجنّس صورتهن بينما تنكر عليهن القدرة على التحكم في حياتهن وجنسانيتهن. (7)

تقول سمر متحدثة عن ذلك:
“يتم الافتراض دائماً أنني خاضعة أو مقهورة بسبب خلفيتي الثقافية. حتى أنني تعرضت لمواقف أُطلب فيها أن أكون مثالاً لجارية او راقصة كأنني مجرد انعكاس لقوالب نمطية جاهزة”

وتقول أمل وهي مهاجرة عربية :
“طلب مني مرات عدة ارتداء الحجاب او العبايه”
تلمس شعرها ثم تشير الى جسدها وتواصل: “لون شعري الداكن، وجسدي الممتلئ قليلا، يجعلهم يرغبون في فرض صورتهم عن العربيات… امرأة ترتدي الحجاب”

المهاجرات من شمال إفريقيا والدول العربية : صراع الهويات بين الوصم الثقافي والديني والعمل في سوق الجنس

تواجه النساء المهاجرات من شمال إفريقيا ودول عربية صراعا آخر في سوق الجنس، حيث تتقاطع مهنتهم مع التوقعات الثقافية والدينية المفروضة عليهن، سواء في فرنسا أو في مجتمعاتهن الأصلية.
في الواقع، تأتي العديد منهن من مجتمعات يتم فيها تنظيم الجنس الأنثوي اجتماعيًا وأخلاقيًا بشكل صارم، وحسب المعايير المرتبطة بالشرف والعذرية وسمعة العائلة، وبالتالي، تؤدي ممارسة هذا العمل إلى وصم مزدوج: كعاملات في الجنس في مجتمع فرنسي يهمشهن ويستغل هشاشتهن، وكنساء ينتهكن المعايير الأخلاقية لمجتمعاتهن.
تزيد هذه الضغوط الاجتماعية المزدوجة من سوء اوضاعهن. فالعديد من النساء المهاجرات من شمال إفريقيا اللواتي يعملن في الجنس في فرنسا يفعلن ذلك في سرية، بسبب الخوف من الانتقام من أسرهن أو مجتمعاتهن، وكذلك لتجنب الوصمة الاجتماعية المرتبطة بعملهن، فتزيد هذه السرية من هشاشتهن الاقتصادية والاجتماعية.

تقول سمر : “في كل مرة أصادف شخصًا من أصول مغاربية، أشعر وكأنني اختتق.. أراه يتصل بعائلتي ويحدثهم عني… يمثل أعمامي وأخوالي سلطة صارمة في العائلة، ولن يترددوا في قتلي حفاظًا على ما يعتبرونه شرف العائلة.”

وتقول أمل: “في الواقع، لقد تبرأت عائلتي مني لمجرد أنهم شكوا في طبيعة عملي، وكأن الشك وحده كافٍ لقطع كل روابط الدم والرحمة. أؤمن أن الله سيغفر لي إذا تبت، لكن عائلتي؟ لا، مستحيل… فذنبي لا يُغتفر أبدًا وهم لا يرتكبون الذنوب”

بالإضافة الى ذلك، يتميز وضع المهاجرات من شمال إفريقيا والدول العربية، العاملات في سوق الجنس في فرنسا بتعقيد العلاقة بين انتمائهن الديني – غالبًا الإسلامي – ومهنتهن، اذ تؤثر القوالب النمطية التي تربط الإسلام بالقمع الجنسي أو الممارسات الأبوية في كيفية رؤية العملاء لهن، ويزيد بذلك هذا الوصم الديني من أشكال التمييز العرقي والجندري التي يواجهنها.

إحصائيات مقلقة

يبلغ عدد العاملين في سوق الجنس في فرنسا حوالي 30,000 شخص 85% منهم نساء و93% منهم أجانب. يعني ما بين 50% و70% من الأشخاص الذين يمارسون هذه المهنة من مشاكل نفسية تتراوح بين الضعف النفسي والمشاكل النفسية الحادة.
كما يتعرض 51% منهم لعنف جسدي في إطار عملهم، و يتعرض 64% للإهانات أو لأفعال الإذلال أو الوصم. (2)

ختامًا، يمكن القول ان سوق الجنس في فرنسا تعكس تداخلًا معقدًا بين الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية والعرقية التي تزيد من هشاشة النساء، خاصة المهاجرات منهن. فهي ليست مجرد سوق اقتصادية، بل أيضًا ساحة تلتقي فيها الهويات العرقية والجنسية والطبقية لتخلق واقعًا مزدوجًا من الاستغلال والتنميط. كما ان السياسات الحالية، لم تنجح في توفير الحماية أو الحد من الاستغلال، بل ساهمت في تفاقم معاناة العاملات من خلال تعميق السرية المحيطة بعملهن، فصرن أكثر عرضة للعنف والتمييز. وما يزيد من عمق مأساتهن هو أن هذه السوق تُعيد تشكيل أجسادهن وفقًا للهويات العرقية والجنسية، فتحولهن إلى مجرد أدوات اقتصادية يتم تسعيرها وتوزيعها بناءً على التصورات العنصرية السائدة، وتشكلهن داخل دائرة مغلقة من التهميش والتجسيد الاستهلاكي. وبهذا تتحول العاملات إلى مجرد أرقام، يُستهلكن ويُستغَلن وفقًا لمعايير اقتصادية واجتماعية قاسية وفي تغييب تام لانسانيتهن.

مقالات ذات صلة

Leave a reply

  • Default Comments (0)
  • Facebook Comments

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى