مقالات كل العرب

نحو تعليم تحرري

شارك

نحو تعليم تحرري

د. رمزي عودة

لم يستطيع الطلبة التونسيين إخفاء دهشتهم وتعاطفهم بينما أنا أحاضر فيهم حول جرائم الاحتلال الاسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية. لقد انهالت علي الاسئلة في حرم الجامعة التونسية ليس فقط من الطلبة، وإنما أيضا من المدرسين الذين تساءلوا بمنطق حول كنه الاحتلال وآليات التخلص منه. بعضهم طرح علي فكرة فاجأتني وهي مرتبطة بالتعليم كوسيلة أساسية في مقارعة الاحتلال والانتصار عليه وتعزيز صمود المواطنين. في الحقيقة، وللوهلة الأولى، صدمت من هذا الطرح، فهو لم يطرح لا الكفاح المسلح ولا المفاوضات ولا القانون الدولي ولا أي شئ مما عهدناه في مسلسل نضالنا ضد الاحتلال. وبين الدهشة والمفاجئة أجبت بسرعة ربما أنقذتني بعض الشئ، وقلت بأن على الاخوة التونسيين تدريبنا على اعتماد مناهجهم وطرائق التعليم والقوانين الناظمة له، فلربما ذلك يساعدنا، وخاصة أن تونس تتمتع بنظام تعليمي صارم وقوي سواء في التعليم المدرسي أو الجامعي.
في الواقع، لم أكن غريباً عن الحقل التعليمي ليس فقط بسبب رئاستي الحملة الاكاديمية الدولية لمناهضة للاحتلال والابرتهايد، ولكن أيضا لعضويتي في الائتلاف التربوي الفلسطيني، ولكن لأكن صادقاً وصريحاً، فلم أفكر أبداً طوال السنين الماضية بالنظر الى التعليم كأداة التحرير، لاسيما أن الغرب الناظم لمعظم القوانين الدولية للأسف، حدد لنا مصفوفة من أهداف التعليم مثل الإلزامية والمجانية والوصول والشمول، وهو الأمر الذي جعلنا لا نفكر خارج الصندوق، فنسينا أهم غائية في العملية التعليمية وهي التحرر والانعتاق من الظلم والاستبداد.
في الاطار السابق، غابت عن أهداف العملية التعليمية لدينا في فلسطين نظريات باولو فريري حول التعليم كأداة للتحرر، وغابت عنا أيضاً نظريات التعليم الاخلاقي في اليابان، وكذلك النظريات التعليمية الحديثة في فنلندا والصين واليابان، لأننا اعتقدنا في الأساس أن التعليم سواء المدرسي أو الجامعي ليس سوى معلومات للتلقين، ولم نفكر ملياً بتطبيق نظرية أفلاطون في الحوار والجدل في التعليم الجامعي، أو حتى في تطبيق نظرية روسو في تضمين القيم الوطنية في التربية المدرسية. في الحقيقة غابت عنا كل هذه النظريات عندما وضعنا مناهجنا وطرائقنا في التعليم ونسينا أننا في واقع احتلال وفصل عنصري.
ولأكون أكثر تحديداً من خلال طرح بعض الأسئلة، هل يساهم التعليم الفلسطيني في توضيح آليات الصمود ؟ وهل يساهم في تعزيز الوعي بالمقاومة السلمية؟ وهل يشرح آليات النجاة في ظل الأزمات والحروب؟ وهل يمكن للتعليم أن يتيح لطلبتنا آفاق حرة للتفكير النقدي والابداعي في حل المشاكل والأزمات التي تواجه المجتمع الفلسطيني؟ وهل يدرك خريجي العملية التعليمية مفردات ومفاهيم العقد الاجتماعي والامبريالية والرأسمالية والفصل العنصري والعلمانية والمواطنة والعدالة والحرية والمساواة وغيرها من المفاهيم والقيم الأساسية الناظمة؟ وإن أدركوا هذه القيم، هل يستطيعون تحويلها الى ممارسات في حياتهم اليومية سواء بالتعزيز أو بالرفض؟ هل يمكن استعارة المنهج الياباني في تعليم الاخلاق والفلسفة لطلاب المرحلة التأسيسية ؟ وربما التساؤل الأهم، لماذا تغيب الفلسفة والمنطق عن مناهجنا التعليمية؟ حيث بتنا فقط نركز على التعليم الديني والاداب والعلوم؟ أسئلة كثيرة يمكن طرحها في هذا السياق ولكنها جميعاً تشير بشكل واضح الى تدني مخرجات العملية التعليمة في فلسطين، ليس هذا فقط، وإنما تشير أيضاً الى عدم قدرة العملية التعليمية على انتاج تعليم قادر على مواجهة الاحتلال ودحره.
في هذه المقالة أطرح أسئلة أكثر من كونها إجابات، لأنني أعتقد أن الاجابات لا يمكن تضمينها الا من خلال حوار ونقاش قادر على إنتاج الأفكار والقيم، هذه القيم لا يمكن إعادة إنتاجها في عملية التلقين والجمود الفكري، كما أن هذه الافكار الجديدة لا يمكن إنتاجها الا من خلال تدريس مناهج البحث العلمي في كل سنوات الدراسة منذ التمهيدي وحتى نهاية المرحلة الجامعية. وهنا، فإن علىّ أن أذكر أن التعليم في فنلندا لا يتجاوز ثلاثة أيام في الاسبوع، ولكنه قادر على التنافس والوصول بمخرجات التعليم المدرسي الى الدرجات الأولى في العالم تماماً كما هو الحال عليه في الصين واليابان وبدرجة أقل في أندونيسيا وماليزيا.
وفي النهاية، أنا أدرك تماماً أن الاجابة على هذه الاسئلة تتضمن ثورة حقيقية ليس فقط في التعليم، وإنما أيضاً في المجتمع، ولكن لنكن واضحين، فإنه لا يمكننا الانتصار على الاحتلال والظلم بدون هذه الثورة. لأنها تتضمن ثورة في القيم وثورة في التربية وثورة في المناهج وثورة في المجتمع. ان هذه العملية ربما تحتاج الى ثلاثة أو أربع عقود حتى نصل الى مرحلة الثورة الثقافية التي قام بها الزعيم الصيني ماو في ستينات القرن الماضي، ولكنها حتماً هي الطريق الصحيح للثورة على الذات أولاً، ومن ثم الثورة على الاحتلال ثانياً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى