السيكولوجية والبوليفونية في رواية “بينوكيا لا تكذب” لسلمى الأشهب
السيكولوجية والبوليفونية في رواية “بينوكيا لا تكذب” لسلمى الأشهب
أ. شذى فاعور
تعددت أصوات الرواة وتداخلت في رواية “بينوكيا لا تكذب”، الأمر الذي أدى إلى انكسار خط سير الحبكة وتشظّيها، إلا أن هذا التشظي والتعدد لم يؤثر سلبا على استيعاب كمّ السيّر الذاتية للشخصيات المتعددة، بل حفّز أسلوبية التشويق الروائي، فوجد القارئ في رواية “بينوكيا لا تكذب” لوحة فسيفسائية متمثلة بشخصيات ولدت في حقبة زمنية محددة، وهي حقبة السبعينيات من القرن الماضي، مؤكدة لنا أنّ الكاتب الروائي هو ابن جيله، مستعينا بالشخصيات الروائية سواء أكانت تلك الشخصيات حقيقية أم متخيلة، إلا أنّها تستمد واقعيتها من زمن حقيقي، ومونولوج داخلي، وتداع حرّ للأفكار، واسترجاع للذكريات. عرضت لنا الرواية شخصيات متعددة يبدو أنّها تتكلم بصوت الروائية الداخلي، أو ربما تحدثت الروائية من خلال تلك الشخصيات عن هموم جيلها وتطلعاته، لكنّ الأمر المفروغ منه أن الكاتبة قد قدمت رواية سيكولوجية بامتياز.
كان من ضمن تلك الشخصيات المتعددة؛ شخصية كفاح، الذي مثّل اسمه رمزية واضحة، تتقاطع مع جزء بسيط من أدب المقاومة، أما شخصيته فقدت حملت سمات عدة: والاغتراب، والوحدة، ورفض الخنوع، وهي صفات متجذّرة في شخصية الفلسطيني، أو هي حقيقة حياته، واغترابه، أما عقم كفاح فيرمز إلى شعوره بالعجز عن تحرير فلسطين والعودة إليها، وخذلان المحيطين له. ومن خلال هذه الشخصية لمسنا قضايا عدة من مثل: ضياع الهُوية الثقافية الفلسطينية، والتزوير والتلفيق والاغتراب.
أما بالنسبة لشخصية داليدا، التي تمثّل لعنة الجمال على صاحبها، وتمثّل تمحور الفكر العربي حول أفكار تقليدية مقولبة مثل: الفتيات الروسيات، جمال الروسيات، فتوضّح تلك الشخصية حقيقة الصراع النفسي لدى الشخصية الروائية، ومقاومتها النظرة النمطية التي تستخف وتحقر من الفتيات الجميلات أو بنات الروسيات، ولمسنا ذلك الصراع عندما عاقبها حبيبها كفاح بقوله: “والدك جاب أمك من مزابل أوروبا”، أو حين لم يعجبه خنوعها ورضاها بواقعها. وشكلت تلك الحادثة الحوارية الصدمة الأولى لداليدا بتمثلات الحيرة، والضياع، وتفاقم فضاء الاستفهام، الذي أودى بها في نهاية الأمر لرغبة في الانتحار، وحتى عندما أرادت داليدا الهروب من جحيم الصدمة النفسية التي شكّلها كفاح، خاضت تجربة أكثر قسوة مع زوجها باسم، الذي كان استحضاره لتنامي الصراعات، ومناقشة قضايا من مثل: الثقة بين الأزواج، الانتقام، وقضية استغلال الزوجات، وهذا ما مثّله مشهد زوجها باسم وهو يسلّمها لأبي صقر لينتقم منها لذكرها اسم كفاح في لحظة شديدة الخصوصية بينهما.
ثم كانت شخصية دانية، أو (النافذة المفتوحة) لجميع الأصوات والأفكار، الراوي العليم للشخصيات، شخصية (بينوكيا) التي لا تكذب إلا أنّها لم تقل الحقيقة كاملة، تلك الشخصية الممثّلة لحقيقة تشتت الذات، وحاجات الأنثى لطاقات ذكورية أبوية، فهي الفتاة التي ماتت والدتها وهي في عمر الثالثة، وتركها والدها لتعيش في بيت جدتها، مما ولّد لديها النقص والحاجة لعطف وحنان الأب، كما تشكّلت لديها مجموعة من التغيرات النفسية المتتابعة جعلت من عنصري التشويق، والمونولوج الداخلي يظهران بكثرة.
ولوحظ كذلك ظهور الفلسفة النفسية المتجلية بموقف دانية وأبناء عمومتها حول مراقبة الناس بالمنظار، تلك النظرة التي تمثّل الحكم المبدئي والحكم النهائي على شخصيات نراها بعين النقد، ثمّ نكتشف مدى براءتها، أو غاياتها الطيبة من وراء ذلك، وتجلّى ذلك في مراقبتهم لشخصية سوسو التي حُكم عليها بأنّها تعمل بملهًى ليلي من أجل المتعة فقط، وقد كانت تعمل لأجل إعالة والدتها المريضة. ومما تجدر الإشارة إليه، أنّ حاجة الشخصية، (دانية)، لطاقة ذكورية في سنّ صغيرة جعلتها تلجأ لحب عمر، وهو في عمر الثامنة والثلاثين، وهذه الحاجة ولّدت أغراضا نفسية روائية، وفلسفة وجودية، وأحاديث نفسية، وصراعات داخلية بين القبول والرفض، وبين الاطمئنان والخوف.
وحضرتنا كذلك شخصية رحمة، أو (المبروكة) كما قيل عنها، التي مثّلت حقيقة الخيانات الزوجية، وحاولت الروائية من خلالها تقديم مبررات نفسية من خلال حوارية خارجية أو داخلية من قِبَل الزوج لتبرير خيانته زوجه سواء اتفقت معه الروائية أم لم تتفق. لقد كانت شخصية رحمة تمثيلا حقيقيا لتقنيات الاسترجاع، واستحضار الذاكرة الطفولية، ووسيلة مهمة ومستحدثة لذكر وجهة النظر المونولوجية من طرف أول؛ ففي قصتها عند الأرجوحة، حين هوت بها في واد سحيق ، كان لا بدّ من استحضار شخصية لأغراض إثارة التساؤلات، وفرض سلطة حضورية ذكورية، شخصية فيصل الذي قام بإنقاذها في حينها، تلك الشخصية التي استدعتها كذلك لوازم الحوار، والحضور السلطويّ الروائي، وضرورة سردية للاستماع للصوت المونولوجي من وجهة نظر ثانية، وزاوية مختلفة، كما استدعتها الحاجة لتخفيف زخم الرواية، وإثارة التشويق من خلال قصص الحب، وصدف اللقاء. إلا أنّ الروائية عادت لتصدمنا بأنّ النهايات قد لا تنتهي بما نحب، وبأنّها قد تشكل مُفارقة، ولحظة كشف لدى القارئ، حيث انتهت العلاقة بينهما بخيانة غير مبررة. إذن فقد اتقنت شخصيتا رحمة وفيصل لعبة الظهور والاختفاء، وحدوث المفارقات، وعكس التوقع، وتجلّي لحظات الكشف، والنهايات الصادمة. ومن هنا كان حضور فيصل ليكشف لنا السبب والمسبب، والحدث وأسبابه، حيث كان رفضه لكل فتاة قبل التقائه برحمة تقديما لالتقائهما في بريطانيا، وتمهيدا في حدوث الصدمة ونقطة بداية جديدة في حبكة مفككة.
وحضرتنا كذلك سوزي أو (الفتاة الدبدوبة) كما وُصفت، تلك الشخصية التي تصوّر حقيقة الصراع بين القبح والجمال، وتشكّل نافذة لجوانب نفسية من مثل: غيرة الأقران، وعدم إدراك النعم، وظهرت الأخيرة في حوارها المطوّل مع دانية الذي كان فلسفة نفسية لعدم الإدراك الحقيقي للنعم المتواترة والخير الوفير الذي نملكه؛ فنحن كما جاء في الرواية “لانفرح بالمتاح بقدر ما تأخذنا المقارنات”. فتلك الشخصية التي تصور صراعا نفسيا واستدعاءً لشخصيات أخرى من مثل: شخصية عصام، وذلك في حدث زواجها منه، عصام الذي شكّل لها تنامٍ في شعور التناقض النفسي، والغربة، والضياع، والتشتت، حيث أقنعها بفكرة الحجاب وترك العمل أمام أهله، وبأن يفعلوا ماشاؤوا في حياتهم طالما هم بعيدون عن أهله أو عن الناس ممن يعرفهم. ورأينا أنّ حادثة ارتباطها بعصام قد صوّرت تنامي الصراعات النفسية التي تبين مدى التناقض النفسيّ في ذات الشخصية الروائية، وبيّنت لنا ضرورة حضور الحوار الخارجي للشخصية الخلفية الثانوية، من مثل شخصية والدتها التي قالت لها “صحيح أنّك قد تختارين في يوم من الأيام أن تتحجبي أو أن تتوقفي عن العمل، ولكن أن يُفرض عليك هذا الخيار سيجعلك أسيرة لضعفك وترددك مدى الحياة” . لذا فقد كان هذا الحوار تمثيلا لفلسفة نفسية إقناعية، وتداخل سردي للروائية عن طريق حكمة فلسفية، وسيكولوجية عميقة .
ونختم تلك الشخصيات بشخصية هديل، التي نوقشت من خلالها سيكولوجية الاعتداء على الأطفال، ومدى تأثيرها في خلق صراعات لا متناهية ونوبات من الهلع والكآبة، كما ناقشت شخصية المُعتدي بطريقة تشريحية نفسية، حيث عانت هديل من (الصرخة) كما جاء في أحد عناوين الفصول، تلك الصرخة المكتومة التي بقيت أسيرة لها، وذلك بعدما اعتدى عليها صديق والدها وهي في عمر الثالثة عشر. إلى أن أصبحت (على بوابة الخلود) في عنوان آخر، لتمثل حقيقة التغيرات النفسية للذات الروائية بانتقالها من الهدى إلى الضلال بارتدائها الحجاب.
ويمكن القول في نهاية الأمر إنّ تلك الرواية يُمكن أن تُدرس دراسة نفسية سيكولوجية، حيث شكّل تعدد الأصوات، وتعدد اللّماذات، وتعدد المونولوجات، سيلا من التداعيات النفسية والدلالات الفلسفية العميقة، وشكّل سيلا من التحليلات التي تنتهي بالسؤال: لم حصل كل هذا؟ وما الذي أخفته بينوكيا عنّا؟