رحلة الماضي و خطاب الذكريات
رحلة الماضي وخطاب الذكريات
(تعقيبا على قصة “عيون مدينة، ذلك النسر الذي افترسني” للكاتب القصصي سالم الباوي)
أ. سيدكاظم القريشي
قرأت قصة قصيرة للكاتب سالم الباوي تحكي عن طفولته وكيف كان يتابع مسلسل “النسر وعيون المدينة” الذي كان شهيرًا في ثمانينيات القرن العشرين.
نحن أيضًا كنا نتابع المسلسل بشغف. لم يكن لدينا تلفاز في تلك الفترة، فوالدي كان رجلًا متدينًا متشددًا، يعتبر أن التلفاز يجلب الشياطين إلى البيت. الغريب أنه كان دومًا الأول في التوجه إلى منزل جارنا حجي فالح لمشاهدة المسلسل.
منزل حجي فالح كان يعج بالأطفال والنساء والرجال. بعض النساء كنّ يحاولن التنبؤ بأحداث المسلسل ويقمن بتخيُّل سيناريوهاتهن الخاصة.
– سيُضرَب رجب.
– لا، رجب رجل مسالم، لا يضرب أحدًا.
تعالت أصوات النساء إلى درجة جعلت من الصعب سماع الحوار في التلفاز. نطلب من القريبين من التلفاز تفسير ما يحدث بين الممثلين. والجالسون، خشية أن يفوتهم أي مشهد هام، كانوا يبقون صامتين. والبعض من باب التفاخر لم يشاركوا بما يعرفونه ليظهروا كأنهم الوحيدون الذين يعرفون ما سيأتي بعد.
عقب انتهاء الحلقة، كان حجي فالح وآخرون يُشرِعون في نقاش دقيق للأحداث وكانوا يُحلِّلون ما شاءوا من المسلسل. وهكذا كانت تأتي لحظة الأشخاص الذين كانوا يجلسون بقرب تلفاز “شارب” 14 بوصة والذين كانوا يُظهِرون رغبة في فضح أحجيات المسلسل. البعض كان يضيف أو يحذف أجزاءً من المسلسل كي يجعل منه فيلمًا هنديًا، وآخرون كانوا يبتكرون شيئًا جديدًا لم يخطر ببال أي مخرجٍ مهما كان.
وأما الواقعة المفاجئة، فحدثت عندما هبت ريح شمالية عذبة فلم يستقبل الهوائي أية قنوات عربية. في الأيام الحارة عندما تهب الرياح من اتجاه الخليج، كان بإمكاننا مشاهدة قنوات الكويت والبحرين وقطر.
قناتا قطر والبحرين كانتا تعرضان أفلامًا هندية بسمراتهما الليلية، وكنا نحن الأطفال مفتونين بها. كنا نقلد أبطال تلك الأفلام في معاركهم الظافرة ضد جحافل الأعداء، أو في قفزهم البطولي من قمم الأبنية، أو في تحديهم للسيارات الجامحة. حسون فقد يده عندما قفز من أعلى بناية، فقد يده اليمنى وفكه العلوي. لمدة سنة لم ينبس بكلمة ولم يتناول سوى الماء والشوربة. استمر الطقس في كونه شماليًا حتى آخر حلقة من المسلسل، وساد الحزن في الأرجاء. لا أدري كيف خطرت لي فكرة أن نُجري استطلاع رأي لقرار كيفية ختام المسلسل بما أن الحلقات قد انقطعت. استحسن الجميع الفكرة وبدأنا في صياغة سيناريوهات محتملة لخاتمة المسلسل وأقدار الشخصيات:
– ما مصير رجب وقمرة؟
– أشار استطلاع الرأي إلى أن رجب سيتزوج قمرة.
– وماذا عن إسماعيل الجلبي وأبنائه إبراهيم وروؤف؟
– كانت الآراء مختلفة في ذلك، فالبعض تعاطف مع إبراهيم، وأمنيات النساء ذهبت لأملهن في أن يسافر روؤف إلى الخارج لعلاج نفسه.
– وما العاقبة التي ستحل بقادر بك؟
– كانت آمال الجميع تتمنى أن يفقد ثروته ثم يرحل إلى أوروبا.
– وحسنية خاتون تنتقل إلى الأهواز وتتزوج من حجي فالح.
– في حين أن عطية تأتي هي الأخرى إلى الأهواز ولكنها تقرر عدم الزواج من أحد.
نكون بذلك أول شعب في العالم يستخدم استطلاع الرأي ليحدد نهاية مسلسله التلفزيوني، وبالطريقة التي يرغب بها الجمهور وليس كما هو مقرر في السيناريو الأصلي.