كل الثقافة

صورة المرأة في الفن القصصي القصير جدًا: نون النضال أنموذجًا

شارك

صورة المرأة في الفن القصصي القصير جدًا:

نون النضال أنموذجًا

 

أ. سرور ناصر

 

مقدمة

المرأة في جميع أمكنتها _السياسية والاجتماعية، والدينية والاقتصادية، و… إلخ_ ليست بمعزل عن السرديات؛ ذلك أن الثاني (أي السرد) يتأثر بالأول (المرأة)، فيأخذ من واقع المرأة موضوعًا أو يعكس واقع الشخصيات على الورق مع الاستنجاد بالخيال، غير أن الانطلاقة، أو الأرضية لا تنفصل عن الواقع. هكذا هي الحال مع المرأة؛ إذ إن السرد يؤثر في مكانتها أيضًا، إن كانت نحو نموها أو انحدارها، ذلك من خلال السرديات التي تأخذ موضوع المرأة محورًا لها، أو تراعي المساواة الجنسوية في عملية بناء الشخصيات على الأقل، إذا لن نتحدث عن المساواة في الدور الاجتماعي. والقصد من المساواة الجنسوية في عملية بناء الشخصيات، إعطاء الشخصيات النسائية أدوارًا وظيفية تساهم بوصول العمل السردي إلى ذروته ونهايته. من هنا تأتي ضرورة دراسة صورة المرأة بأشكالها في الأدب السردي محاولة لإرتقاء الأدب إلى سمو الجنسين معًا دون إقصاء ينافي مبدأ الإنسانية، ذلك بعد تمحيص النص السردي والوقوف على عدة جوانبه لتبيين الآليات المسببة للنمو والانحدار معًا، عبر فهم الأدوار التي تؤديها الشخصيات النسائية في النص السردي، مقابل العدد، إلى آخره.

لذا آثرت الدراسة المنهج التحليلي-الوصفي لدراسة النسق الداخلي للنص، من خلال صور المرأة، إلى السياق الخارجي للنص، لرصد الظواهر الاجتماعية التي انعكست في النص من خلال عملية التأثير والتأثر بغية الإلمام بواقع المرأة الأهوازية في النصوص الأهوازية على نحو أحسن، لهذا استعانت الدراسة بالمقاربة الصورية والاجتماعية، لكي تجيب عن الأسئلة التالية: هل تأثر الكاتب بواقع صورة المرأة الأهوازية أم قدم صور نماذج معينة لصنع الواقع المنشود؟ كيف تجسدت صورة المرأة في القصص القصيرة جدا؟ كيف رسم الكاتب علاقة المرأة بالرجل؟

وعنون المحتوى إلى عدة عناوين حسب ترتيب ما يلي: القصة القصيرة جدا تعريفها ومكانتها في الأهواز، الصورة الأدبية، صورة المرأة الأدبية، صورة المرأة الأهوازية، صورة المرأة في نون النضال.

القصص القصيرة جدا؛ تعريفها ومكانتها في الأهواز

اقتضى عصر السرعة _كما أطلق عليه الروائي ميلان كونديرا في رواية البُطء_ جنسًا أدبيًا يتناسب وداء السرعة الذي أصاب العصر بواسطة التكنولوجيا من جهة والتقدم العلمي من جهة أخرى، فقد تمخض جنسًا أدبيًا حديثًا من الواقع  يسمى بعدة أسماء، لكن الغلبة كانت لعنوان “القصة القصيرة جدًا”، كما شرح ذلك الباحث جميل حمداوي، وأضاف أن “القصة القصيرة جدا جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النفس الجملي القصير الموسوم بالحركية، والتوتر المضطرب، وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي، وذلك ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي.”[1] وقد رجعت نشأة القصة القصيرة جدًا إلى عام 1925م ومن خلال قصة قصيرة الحجم كتبها الكاتب أرنست همينغواي. لكن هذا الجنس الأدبي مثل بقية الأجناس الأدبية لم يسلم من آراء النقاد المختلفة بشأن زمنية نشأته، وتضاربت الآراء حولها كما حصل مع شقيقاتها السردية، لكن، كان للباحث جميل حمداوي رأيًا مختلفًا بشأن نشأة القصة القصيرة جدًا في الأدب العربي؛ “فلهذا الفن الوليد في الحقيقة جذور عربية تتمثل في السور القرآنية القصيرة، والأحاديث النبوية، وأخبار البخلاء واللصوص والمغفلين والحمقى، وأحاديث السمار، علاوة على النكت والأحاجي والألغاز، دون نسيان نوادر جحا… ومن ثم، يمكن اعتبار الفن الجديد امتدادا تراثيا للنادرة والخبر والنكتة والقصة والحكاية، ويعد في العصر الحديث امتدادا للقصة القصيرة التي خرجت من معطف الكاتب الروسي غوغول.”[2] ويضيف أن تاريخ نشأة فن القصة القصيرة جدا في الأدب العربي الحديث يرجع إلى عام 1944م.

ويذكر الكاتب سعيد مقدم بخصوص نشأة هذا الجنس الأدبي الحديث في الأهواز أن “دخل هذا الفن الأدبي الأهواز عام 2005م حيث كتبه شخص باسم مستعار هو عادل العابر. لكن قصص العابر لم تصل إلى القارئ الأهوازي ذلك لأن الإنترنت لم يكن متاحا، ومجموعات التواصل لم تكن موجودة آنذاك. ثم ومواكبة مع ظهور مجموعات التواصل كتبها كتاب أهوازيون آخرون، ونُشر لحد الآن ثلاثة كتب في هذا الحقل، كتاب كبرياء لي عام 2015 وقد دعمته جمعية الهلال الثقافية، وطبعت منه 2500 نسخة، والتي تم حظرها في العام الماضي! وكتاب نون النضال لسعيد إسماعيل والذي نشر خارج البلاد عام 2017 وكتاب الثالثة والعشرون لأمير المانع طبع منه 1000 نسخة وكان نشره في عام 2017 أيضا.”[3]

إن هذا النوع الأدبي الجديد لم يحظَ باهتمام المرأة الأهوازية مقارنة بالرجل الأهوازي؛ ذلك أن من بين أربعة كتب أهوازية مطبوعة في فن القصة القصيرة جدا، _كبرياء، نون النضال، الثالثة والعشرون، الأرض_ لم نجد مجموعة نسائية واحدة في هذا المجال الأدبي، عدا محاولات منشورة في المواقع، لكن في واقع الأمر لم تصل إلى مرحلة التبلور في كتاب كامل، وبما أن الغاية من هذه المقالة التطرق إلى الكتب المنشورة فقط، لذا آثرت المقالة أن لا تذكر غير المجموعات المنشورة.

 

الصورة الأدبية

للصورة الأدبية دورٌ لا يمكن الاستغناء عنه في عملية الاتصال بين الكاتب والقارئ/المتلقي، بما أن النص الذي يلعب دور الوسيط في هذا الاتصال، يقوم على صورة كلية تحوي مئات الصور الجزئية، وقد تكثر أو تقل بناءً على خيال الكاتب. والصورة الأدبية “طريقة خاصة من طرق التعبير، أو وجه من أوجه الدلالة، تنحصر أهميتها في ما تحدثه في معنى من المعاني من خصوصية وتأثير. لكن أيًا كانت هذه الخصوصية، أو ذاك التأثير، فإن الصورة لن تغير من طبيعة المعنى في ذاته. إنها لا تغير إلا من طريقة عرضه، وكيفية تقديمه.”[4] إن شرط الصورة يتحقق بوجود قارئ متصور لتلك الصورة في الأدب، لأن الصورة في معناها العام_بعيدًا عن المعاني والدلالات الكثيرة التي تدل على مفهوم الصورة_تعني إعادة تشكيل المادي وغير المادي في النص؛ أي إعادة خلقها في النص السردي، بداية في ذهن الكاتب حين الكتابة، ثم في ذهن القارئ لتتم مهمة الكاتب في نقل الصورة من الواقع إلى النص، وثم من النص إلى ذهن المرسل إليه. و”الحديث عن الصورة في مدلولاتها المرئية، يعني الحديث عن الطابع التحليلي المنفتح للخطاب البصري، وهو الوضع الذي يدعونا إلى ذلك الفهم الذي يسأل صلب الإشكالية الفينومينولوجية المتعلقة بتلمس موقع الصورة بين العالم المسمى محسوسًا وبين مجموعة الأنساق السيميائية المضمرة التي تتوارى وراء كل مظهر محسوس.”[5]

على أن الصورة بعد أن تتشكل بأبعادها في خيال الكاتب تأخذ اللغة وسيلةً لإخراجها من مصنعها الأول؛ أي الخيال الخصب للكاتب، ثم تتجلى هذه الصورة للقارئ عبر اللغة أيضا_أداة الإيصال_ ذلك بعد أن تتم عملية القراءة بدقة لتشكل مجموع الكلمات لوحة فسيفسائية في ذهن القارئ. وقد عرَّف جميل الحمداوي الصورة السردية الموسعة بأنها “تلك الصورة التي ترتبط بالسرد سواء أكانت رواية أم قصة أم قصة قصيرة. هي تصوير لغوي تخيلي، وتشكيل فني جمالي إنساني، يراعي مجموعة من السياقات مثل: السياق الذهني، والسياق النصي والسياق اللغوي والسياق البلاغي والسياق الأجناسي والنوعي.”[6] والنص الأدبي إن كان قصة أو رواية أو قصة قصيرة جدا إنه عبارة عن صورة كبيرة تتضح للقارئ بعد الانتهاء من قراءة النص، لكن في داخل الصورة الكبيرة أو الصورة الكلية هناك صور جزئية تضفي على الصورة الكبيرة وجهة محكمة ومعينة، تساهم كلها بإكمال الصورة الكلية على نحو أحسن، ويمكن حصرها فيما يلي: صورة الشخصية، صورة المكان، صورة الزمان، صورة الأحداث و… إلخ.

تطور مفهوم الصورة مع تطور الأزمنة، فصار له عدة مفاهيم ودلالات تفيد بالنقد الحديث، وتختلف عن بعضها اختلافا جزيئًا مع كل جنس أدبي، إذن لابد من التفريق بين مفهوم الصورة عند المقارنة بين الصورة الشعرية والصورة الروائية. كذلك الحال يختلف مع التطرق إلى الصورة في القصة القصيرة جدا؛ لأن النقد الحديث في الصورة يقتضي التطرق إلى الصورة الأدبية في إطار جنسها الأدبي الخاص، خاضعة لمكوِّنات جنسها الأدبي. وهذا المقال يتناول الصورة في القصة القصيرة جدًا، وليس الصورة الكلية للنص القصصي القصير جدًا، بل لشخصية المرأة في هذا الجنس.

 

صورة المرأة الأدبية

كتب الرجل عن المرأة كثيرًا، وكتبت هي عن نفسها بما لا يترك المجال للخلل في الموازنة بينهما؛ إذ كلاهما لامس الجنس النسائي في سرده، لكن هذا لا يبعد النظرة النقدية والتحليلية عن إنتاجات الاثنان، وأن كيف كل واحد منهما تناول صورة المرأة في سرده، وأن كيف عبرت المرأة عن ذاتها وكيف عبر الرجل عن ذات المرأة بصفته الناطق باسمها.

تشير الباحثة فوزية عشماوي إلى الروايات التي تطرقت إلى موضوع المرأة في سياقها قبل روايات نجيب محفوظ الواقعية؛ “بصفة عامة نستطيع القول إن المرأة كانت مصورة في كل الإنتاج الأدبي العربي على أنها رمز للجنس أو على أنها مخلوق جميل يثير العواطف سواء النبيلة أو الخبيثة، فالمرأة تصور على أنها منبع للحب وللحنان دون أن يكون لها كيان مستقل، أي أن المرأة كانت دائما في الإنتاج الأدبي العربي مفعولًا وليس فاعلًا.”[7] لكن الباحثة غفلت في بحثها أن الوضع لم يختلف كثيرًا في روايات نجيب محفوظ؛ إذ كان الكاتب ضد فكرة عمل المرأة فنجده صوَّر المرأة العاملة لينتهي بها المطاف بالبغي والدعارة في بعض رواياته، إذا أردنا أن ننظر إلى نصه نظرة نفسانية. قد يكون جزءا من الدافع تصوير الواقع المصري، لكن يبقى النصف الآخر مرتبطا برؤية الكاتب تجاه عمل المرأة المصرية في تلك الحقبة. “ولطالما كانت صورة المرأة صورة نمطية فهي المرأة المقهورة السلبية المتلقية الخاضعة لهيمنة الذكورية، التابعة المتلقية المقموعة، ولم تخرج عن هذه الصورة إلا في الرواية العربية الحديثة، حيث أصبحت شريكة للرجل، وامرأة إنسانة تحمل مسؤولية وهي الأم المناضلة وبشكل عام الصورة تنبع من وعي وثقافة الكاتب.”[8]

لقد جاء تصوير المرأة في أدب الرجل العربي بعد أن أدرك ضرورة مشاركة المرأة في بناء مجتمع مسالم ومتقدم، لا سيما بعد أن مرَّ العالم العربي بنير الاستعمار الغربي. ولو أردنا الدخول إلى صلب الموضوع، لوجدناها نظرة نفعية اعترفت بوجود المرأة وإن كان اعترافًا ناقصًا مبنيًا على نظرة نفعية، لكنها لا تخلو من الإيجابية بالنسبة للمرأة آنذاك. غير أن هذا الاعتراف تزامن مع الأنانية الذكورية، فكأنه وضع المرأة أمام شعار مفاده كوني حرة على طريقتي، أو كما أملي عليك التصرف، فلذا نجد نجيب محفوظ ناصر حملة ضد أُميَّة المرأة، لكنه رفض عمل المرأة رفضًا صارمًا، وانعكس هذا الرأي في بعض كتاباته أيضًا. غير أن لا يمكن إنكار دور هذه الأحداث، ولو كانت ممزوجة ببعض الأنانية الذكورية، لكنها صبت إلى خانة المرأة؛ فبالشرعية التي كسبتها المرأة العربية من النخبة الرجالية، راحت تتطلع إلى البعيد، لتكتسب بعد ذلك مجالها التام في العالم السردي لغةً ومحتوى.

إضافة إلى ذلك، إن الحديث عن المرأة يترافق والحديث عن المجتمع؛ لأن صورة المجتمع تتجلى في سلوك نسائه، وسلوك المرأة نتاج المجتمع والبيئة التي تعيش في كنفها؛ وإن كانت هذه الصورة ناقصة لأن الفرد السليم في المجتمع السليم هو من يؤثر ويتأثر بالبيئة على حد سواء. لذا قلما وجدنا في الأزمنة السابقة تأثير المرأة بالمجتمع، ذلك لأنها وُضعت أمام مسير مقنن قبلها، وحتى قبل أن تختاره، وهكذا صارت تتأثر بالبيئة وقلما تؤثر فيها، ولازالت هذه المسألة لم تجد حلًا نهائيا لغاية الآن، لا سيما في المجتمع الأهوازي. لذا صورة المرأة في الأدب العربي عامة تترافق وصورة المجتمع وما فيه من تقاليد وموروثات بالية، وما تحاصره من قوات خارجية؛ بناء على نظرية كارل ماركس وما عنوَنَه بالبنية التحتية التي تعني الحياة الواقعية، والبنية الفوقانية التي تعني الأدب والفكر والقانون و…، اللتيا لا يكفان عن التأثير ببعضهما بعضًا. لذا نجد هذه المشاكل التي تحاصر المجتمع، تضيِّق الخناق على المرأة أكثر من الرجل، لأنها وكما سبق القول، لا تقرر بل يُقرر لها.

لذلك قبل أن تكسر المرأة الكاتبة الصورة النمطية عنها في السرد الرجالي، كان الرجل الكاتب_أغلبه_ يجيز لها ما يؤمن به من أدوار في كتاباته، لكنها رويدًا رويدًا ومع تقدم الوعي بوضع المرأة ملأت الساحة الأدبية بإنتاجات تتحدث عنها وعن هواجسها كذات فاعلة، كاسرة النمط التقليدي عنها، وراحت تحاول إخضاع لغة الكتابة لصالحها؛ هذا ما حققته بعض الكاتبات العربيات، إضافة إلى رسم صورة جديدة عن المرأة في الأدب العربي.

 

صورة المرأة الأهوازية

يستحيل التطرق إلى صورة المرأة الأهوازية دون أخذ جميع (الطبقات) الشرائح المجتمعية بعين الاعتبار، وقد تتباعد بعض الشرائح عن بعضها حد التباين فيما بينها، إذ تستنكر الصلة الجغرافية بينها، والعكس يصح في مجتمعنا؛ ذلك لأن بحكم الواقع المفروض الذي يعاني منه المجتمع رمزيًا وظاهريًا تفرَّق المجتمع إلى فئات معدودة، تركتْ أثرها السيئ على الصورة الواحدة للمرأة الأهوازية عامة. ويتبلور عن هذا الواقع المفروض المتحدث عنه في السطر السابق عدة عناوين، سيذكر المقال بعضها وليس كلها، خشية الابتعاد عن المحور الأصلي للمقال، ولأن موضوعا مثل هذا الموضوع يستدعي دراسة شاملة.

تحدث الباحث الأهوازي سعيد إسماعيل في مقال له بعنوان “مقدمة في المرأة الأهوازية” عن مصادر النظرة تجاه المرأة الأهوازية وعنونها بترتيب تأثيرها في النظرة؛ العرف الاجتماعي، الدين، القانون. لكن هذا المقال يتطرق إلى الأسباب التي أدت بالفروق الثقافية في صورة المرأة الأهوازية، مع أن الأسباب لا تختلف كثيرًا عما عنونه الباحث، لكنها لا تصب إلى خانة واحدة بالتالي؛ ذلك لأن وجه السؤال مختلف. ويضع هذا المقال السلطة والعرف الاجتماعي والمجتمع القبلي في سطر واحد وضمن عنوان واحد؛ إذ إن الثلاثة تتغذى من بعضها بعضًا عبر عملية تواطؤ ضمنية، لكنها ليست خفية عن الأعين المحللة.

السلطة التي سببت بفارق ثقافي وشرخ عميق بين الصورة الموحدة للمرأة الأهوازية _التي كانت من المفترض أن تتكون في العقلية تكوينًا واحدًا في الوهلة الأولى_ لأنها سببت بتأرجح المرأة الأهوازية بين ثقافتين، أحدها ثقافة الأم التي لا يدعمها الواقع المفروض، وثانيها الثقافة المفروضة التي يدعمها المهيمن الحالي_السينما، الأدب و…_ والسياسي والاقتصادي والتعليمي و…إلخ.

العرف الاجتماعي الذي اختلف دوره وتشدده من فئة إلى الأخرى، ونظام القبيلة الذي تقوم قوانينه تجاه المرأة بناء على القيم الاعتباطية الموروثة جيلا بعد جيل، بدوره لا ينفصل عن العرف الاجتماعي؛ إذ الحديث عن الأول يقتضي الإشارة إلى الثاني، لأن “مجلس العرف هو “المضيف” ومنه تكتسب النظرة تجاه المرأة شرعيتها الاجتماعية وكما يقال –المجالس مدارس- وهو بالفعل مدرسة العرف الاجتماعي الذي تخرج منه آخر الأطروحات العرفية. والمضيف هو مكانٌ ذكوريٌ بامتياز، لا مكانَ للمرأة فيه، وهو المكان الأكثر رسمية في العرف الاجتماعي رغم أنه لم يتبع مؤسسة رسمية.”[9] والقبيلة الواحدة اختصت ببعض القوانين لنفسها، واشتركت بقوانين أخرى مع شقيقاتها _القبائل الأخرى_، لكن في القوانين القبلية جميعها تتدنى مكانة المرأة مقابل الرجل، غير أن الحديث هنا يشير إلى الفروقات بين المرأة في قبيلة فلان، والمرأة في قبيلة فلان التي كلاها تقاس بالأدنى والأدنى منه. ففي بعض القبائل تمنع المرأة من اختيار شريك حياتها تحت ذريعة التقديس والقدسية التي تمنعها من اختيار شريكها خارج دائرة قبيلتها، وفي بعضها تمنع من اختيار الشريك سواء أكان ضمن قبيلتها أو خارجها، لأن بعض الأسر تعتمد على مقولة بنت العم لابن العم _(سابقًا كانت القبيلة لكن مع تقدم المجتمع وتفكيك قانون القبيلة رويدًا رويدًا، صار لكل بيت قوانينه الخاصة فيما يختص بزواج البنت.)_ وغيرها أسباب كثيرة تحتاج إلى دراسة شاملة تفيها حقها الكامل، غير أن هذه الإشارات الضيقة جدا بحكم ضيق المقال تعطي صورة شفافة (ولو لايزال يعتريها غبار لا يجلو إلا بدراسة شاملة تغطي الموضوع بجميع جوانبه) وتجيب باللا عن السؤال القائل؛ هل عند التحدث عن المرأة الأهوازية نتحدث عن فئة نسائية بالهموم والمشكلات ذاتها؟ وجاء الرد قبل السؤال؛ إذ إن الظروف القائمة قامت بإحداث شروخ في مرآة صورة المرأة الأهوازية عامة، وصارت لكل فئة مشكلاتها وإن كانت تتوحد كلها في مشكلة عامة دون وعي بعضها.

ومن هذا الأساس انطلق المقال ليرى صورة المرأة الأهوازية في الأدب الأهوازي المذكور أنموذجًا، ومدى تطابقها والواقع الاجتماعي، وإن كان ثمة تطابق، فأي فئة أهوازية نسائية تجلت فيها؟

صورة المرأة في مجموعة “نون النضال” القصصية القصيرة جدًا

مجموعة نون النضال القصصية للكاتب سعيد إسماعيل طبعت عام 2017م، متكونة من ثمان وثمانين قصة قصيرة جدًا ونصوص أخرى، من بينها ست عشرة قصة احتوت المرأة شخصية أو موضوعًا، وقد جاء المقال بها عينة أدناه، لتخضع لدراسة صورة المرأة الأهوازية باستعانة المنهج الاجتماعي لتبيين انعكاس الظواهر الاجتماعية على نص الكاتب، وبالتالي تبيين الكم مقابل الكيف في نتائج الدراسة.

 

هي وهو

“هو: أريد أن أتذوق طعم الحرية، أتساعدينني على ذلك.

هي: الحرية؟!

هو: نعم الحرية.

هي: لا أعرف هذا الكائن!

هو: ليس كائنًا بل هو شعور، يشعر المرء أنه إنسان.

هي: لم أشعر به قط، أتساعدني للحصول عليه؟

هو: فلنتساعد.

هذا آخر ما سمعته عنهما.” (نون النضال، هي وهو، ص 7)

عنوان هذه القصة يوحي بالمشاركة بين المرأة والرجل منذ البداية، إضافة إلى رصد ضميرين جنب بعضهما البعض دلالة على غير جنوسية العنوان، لكن المرأة لعبت دور اللا أدرية في القصة؛ إذ إنها تساءلت عن جنس الحرية. بيد أنها ساهمت بالبحث عن الحرية بعد أن عرفتها. للوهلة الأولى قد تبدو اللا أدرية منحازة إلى المرأة دون الرجل، غير أن الكاتب يشير إلى عدة ظواهر اجتماعية في الوقت ذاته؛ ذلك أن شريحة كبيرة من النساء في المجتمع الأهوازي تحكر في البيت قسرًا وتمنع عن تواصلها بالمعرفة، لذا من الطبيعي نجد الرجل الذي بحكم العرف الاجتماعي له حرية التنقل والسفر و…إلخ، ينقل مفهوم الحرية إلى المرأة التي حكرت وقصيت عن حياتها الاجتماعية، حتى صارت لا تعرف الحرية. وهنا يكمن الواقع للقارئ والقارئة معًا. ثمة إشارة ضمنية أخرى لرفض ظاهرة في المجتمع؛ تلك القائلة إن المرأة الأهوازية متخلفة وغير مشاركة؛ فجاء الرد قائلا إنها لا تعرف بحكم الواقع الاجتماعي الذي يحددها، واللا أدرية ليست بالفطرة بل نتاج مراحل تربوية تخضع لها المرأة الأهوازية دون الرجل.

من جهة أخرى، وفي المحادثة الأولى، يقول الشاب إنه يريد تذوق طعم الحرية _أي لم يذقها فيما سبق_ ذلك بمساعدة المرأة، بعد أن يسألها: “أتساعدينني في ذلك؟” والحرية هنا ليست الحرية المزيفة التي يبيحها المجتمع للرجل، بل حرية أكبر لا يمكن الوصول إليها إلا بمساعدة المرأة، بعبارة أخرى أن الحرية لا تكتمل إلا بمشاركة الجنسين.

جدب وخصب

“انتفض مع المنتفضين، رفع الشعارات معهم، هتف بأعلى صوته، نادى بحقوقه والحرية، أتت القوات تفرقهم، حاولوا صدَّها بصمودهم، لكن دون جدوى، هرب المنتفضون بحياتهم، هرع إلى شارع صغير لينجو بنفسه، دخل زقاقًا مغلقًا، طرق الأبواب ليدخل. امرأة فتحت الباب.

قال: دعيني أدخل رجال الأمن يلاحقونني.

قالت: لا أستطيع ذلك، زوجي ليس في البيت.

رد بسرعة: أنا مثل ابنك دعيني أدخل.

قالت له وبلحن يشوبه اليأس: ليس لي أبناء.

ثم سدت الباب بوجهه، بقي مندهشًا من الموقف، متسمرًا في مكانه أمام الباب حتى أتى صوت من خلفه: أتكون مثل أخي الذي أُعدِمَ…” (نون النضال، جدب وخصب، ص 11)

جدب وخصب تحكي قصة مراهق حديث السن، افترق عن الجموع المطالبة بالحرية، والضمائر المذكرة هنا تدل على المشاركة الرجالية فقط، لكن القصة لا تخلو من تلاق بالمرأة الأهوازية. وقع التلاقي بين امرأتين؛ الرافضة والمتطوعة. لأن عندما طرق الباب بحثًا عن الأمان، ترفض أن تأويه المرأة الأولى بحكم الإدانة المفروضة على المرأة في حال وجودها ورجل غريب في مكان واحد، لذا قالت للمراهق إن زوجي ليس في البيت وليس لي أبناء؛ لأن المجتمع يحكم عليها بالموت في حال حدوث هكذا حالة. غير أن الفتاة الأخرى تقبلته في بيتها لأنه يذكرها بأخيها، لا سيما وتدل جملتها على وعيها بما حدث في ذلك اليوم، وهنا يتبين العنوان في النص؛ الجدب هي المرأة الأولى التي لا تستوعب التغيير، والنهوض بوجه العرف في حال حدوث ضرورة اجتماعية، مقابل الخصوبة الفكرية للفتاة الأخرى التي أوته.

مؤثِرة

“سألت أمها عن حاجة ملحة، احمَّر وجه الأم ثم قالت ورعشة ترافق صوتها؛ سأجهز لك ما كنتِ بحاجةٍ إليه.

البنت: ليس الآن!

الأم: متى إذًا؟

البنت: متى ما توقف صوتك عن عزف الألم.” (نون النضال، مؤثِرة، ص 25)

تكوَّنت قصة “مؤثِرة” من حوار جرى بين أُمٍ وابنتها في ظل الفقر والبطالة في الأهواز، والواضح أن الأم هي التي تدير الشؤون الاقتصادية للعائلة؛ ذلك أن القصة تخلو من وجود الأب الكادح في الأسرة التقليدية، لذا تبادلت الأدوار في حال فقدان المعيل التقليدي لأي سبب من الأسباب. يتضح ذلك من خلال إحمرار وجه الأم بعد أن طلبت منها البنت حاجة مُلحَّة، ومن خلال جملة الأم التي قالت: سأجهز لكِ. لكن البنت تؤجل طلبها إلى الوقت الذي تكف أمها عن الشعور بالألم؛ أي الوقت الذي تنتهي فيه البطالة وسوء الوضع الاقتصادي.

قفازة سلمى

“اعترف بما لم يفعل، أنجبت زوجته بُعيده في زنزانتها،

 جُهز للإعدام، آخر محاولة لكسر معنوياته أتوا بطفلته وزوجته لزنزانته الباردة.

رآهما، لم يتزلزل، أُعدم شنقًا حتى الشهادة، فسقط الكف من كفه…” (نون النضال، قفازة سلمى، ص 42)

في قصة قفازة سلمى يرجع الضمير الفاعل إلى الرجل الذي أُعدم، كذلك يختصر الوصف به، ويصفه السارد بأنه لم يتزلزل عندما جلبوا زوجته وطفلته لزنزانته. في هذه القصة تكاد تضمحل صورة المرأة وملامحها؛ ذلك أن القارئ لا يعرف عنها سوى أنها كانت ترافقه في السجن، وأنها أنجبت طفلتهما في زنزانة تقع بُعيده. فبرغم أن الزوجين وقعا في مصير واحد، إلا أن الزوجة لم تأخذ حيزًا بالسرد كما أخذ الرجل؛ قد يرجع ذلك إلى اعتراف الرجل بما لم يفعله لكي ينقذ مستقبل زوجته. وفي نهاية القصة يشير السارد إلى سقوط الكف من كف الرجل، وهنا يتزامن العنوان بالنهاية؛ إذ إن الرجل برغم عدم تزلزله في الزنزانة عندما رأى زوجته، وطفلته، لكن أخذ معه قفازة طفلتهما لترافقه في لحظاته الأخيرة، وقد تكون سلمى زوجته، أو طفلته.

هيام

“أتت لترى زوجها في السجن.

هو: أنا مرتاح، اخبريني عنك وعن وَلَدينا،

هي: نحن بخير، يسألا عنك كثيرا.

السجان: انتهى الوقت، بسرعة…

هو: اذهبي حبيبتي، انتبهي على نفسك وتربية وَلَدينا.

هي: سأربيهما كما اتفقنا.

ذهبت وهو بقي يحدق على كرسيها، قد نسيت ظلها…” (نون النضال، هيام، ص 54)

اختفى النموذج التقليدي للمرأة في هذه القصة والقصص الأخرى أيضًا، ليفتح المجال لنساء بهواجس أخرى، متفوقات على نموذج المرأة العتَّابة، ودور الشاكية التي تعيد ذاتها في الأدب من خلال قلم كاتبها أو كاتبتها، فلو أردنا أن نضع المحادثات التي تبنتها المرأة في قصة هيام جنب بعضها البعض لا نجد للعَتَب مكانًا، بل المشاركة بغية استمرارية الحياة برغم الظروف القاسية التي وقعت فيها، فعندما سُجِن زوجها صارت هي المربية الوحيدة لولديهما بناء على اتفاق مسبق، كما يتضح ذلك من خلال جملتيها الأولى في مواجهتها لزوجها: “نحن بخير، يسألا عنك” و”سأربيهما كما اتفقنا.”

“ربمائيات”

“كلما كلمته أو أبدت رأيها قال: ربما،

طفح الكيل، فأبدت استيائها عن الأمر، واعدها ألا يعيدها،

بابتسامة عريضة قالت: شكرًا لأنك تقبلت الأمر.

أجابها: ربما.” (نون النضال، ربمائيات، ص 55)

“ربما” قصة مفتوحة على عدة تأويلات حسب توجهات القراء والقارئات، غير أن المقال بصدد التأويل الذي يفي غرض عنوان المقال؛ الجانب الذي يختص بصورة المرأة. لهذا نرى في قصة ربما صورة امرأة طموحة ترنو إلى التغيير، وتعد المناقشات حلًا لكل بداية جديدة مطلوبة، أو نرى قصة ربما امرأة متشبثة بشريكها، غير مقتنعة بفكرة الاستغناء عنه، عائدة التفاوض وإياه، بيد أنه يعيد الكرة ذاتها في كل مرة.

“التحاق” 

اقترب الموعد الأخير، التقيا بُعيد الفراق بشبرين،

التوقيت فقد كل أوسمته، قد يكون الزمان سرق حصة المكان،

وثقل الصمت الصارخ المسيطر فقد توازن الأشياء،

فاتحها، علمتْ، تألمتْ، كتمتْ.

يريد تقبيل سواها، بعد حين قَبَّل حبل الخلود، تألمتْ، لم تستطع فقدانه فقبَّلت سواه. (التحاق، نون النضال، ص 95)

في هذه القصة أيضا تُرسم صورة المرأة متبوعة بصورة الرجل، فالعنوان يوحي بالتحاق المرأة بالرجل، كذلك عملية نقل المبادئ من الرجل إلى المرأة مستمرة في هذه القصة والقصص التي سبقتها في التحليل، ويتجلى التواصل الفكري من جملة: فاتحها، علمت، تألمت، كتمت، ثم قبَّلت سواه.

حب

يحبها، تحبه، حياتهما أجمل رواية حب

يوم من الأيام سألته: لم لا تهديني الورد؟

نظر إليها قائلا: لا أهديك وردة تذبل بل أزرع في ذاكرتك حدائق ورد.

رجعت تتخيل حدائق حبهما وواحاته. (حب، نون النضال، ص 94)

كما يبان أن جملة يحبها وتحبه تعكس عملية الحب بين شخصين على المستوى العاطفي ذاته، لكن اختص الرجل بالجانب العقلاني وحده؛ إذ نرى المرأة تنشد الورود دلالة على استمرارية الحب، لكن الرجل يرى الحب مجموعة أفعال تنعش الذاكرة، وقد يرجع ذلك إلى اختيار الكاتب نوعية معينة من النساء في المجتمع الأهوازي، لأنها تشكل الأغلبية الساحقة.

“قاتل محظوظ”

مرَّا من بائع ورد، علَّقت ناظريها على الورد، أسرع ليسعدها بوردة،

غمرتها لحظات لا توصف، ثم قالت لحبيبها وهي تستنشق السعادة، ضامة الوردة إلى صدرها، أليس بائعو الورد لطفاء! (قاتل محظوظ، نون النضال، ص 85)

في هذه القصة يركز الكاتب على صورة المرأة التقليدية فكريًا، راسما إياها للقارئ عبر مشهد تعلّقها بالورود ثم تسارع حبيبها إلى اقتناء الوردة لها، وتنتهي بسعادة المرأة والثناء على بائع الورد. وقد اختزلت المرأة الصورة النفعية لنفسها؛ ذلك أن القاتل المحظوظ هو الشخص الذي يقطف الورود لبيعها، وتتضح المرأة ذات الرؤية السطحية والضيقة؛ إذ إنها تغفل الجانب الأهم في تحليلها للظواهر.

“إضفاء”

عجوز من قعر التاريخ تلطش الطين لتصلح جدار بيتها المهترئ،

أنه لن يكون جديدًا، كل مسحة على الجدار تضفي له قرنًا من التاريخ. (إضفاء، نون النضال، ص 66)

في هذه القصة تأخذ المرأة دور آضفة الطين إلى الجدار الذي كان سيسقط لو لا اهتمامها به وتصليحه كلما اهترئ، نجد الطين يرمز إلى الحياة التي تضيفها العجوز الآتية من قعر التاريخ، وقعر التاريخ تدل على حادثة تاريخية مهمة غيرت مصير الشعب نحو الاهتراء، بيد أن العجوز التي ترمز إلى المرأة الأهوازية في طوال النكبة لا تسمح بسقوط الجدار مهما اهترأ، والجدار يدل على الهيكل والأساس.

“رسم”

هذه لوحة فنية رسمها أبي، مستوحاة من الانتفاضة الجماهيرية والدماء التي سالت.

_لوحة جميلة جدًا، تشبه ذكريات أمي!

ماذا عن أبيك؟

_لا شيء، إنه أُريقَ دمه في تلك الانتفاضة. (رسم، نون النضال، ص 38)

ملامح المرأة الضئيلة في هذه القصة لم تمنع عملية الكشف عن دورها البارز في مفهوم القصة الخفي، إذ تجلت في حوار بين شابين ناقشا قضية تاريخية لم يشهدوها، بل وصلت إليهما أخبارها عبر الأسرة وليس التاريخ المدوَّن. في هذه القصة يترافق دور المرأة وعمل الرسام الذي رسم لوحة الانتفاضة، ويضعهما الكاتب في الأهمية ذاتها؛ إذ كلاهما نقلا التاريخ إلى الجيل الجديد عبر الفن والشفهية، في حال عدم وجود مؤسسات ترعى ذلك. لم يتكل الكاتب على عملية نقل المبادئ من جنس لامس الحرية الجزئية إلى جنس محكور عرفيًا وقانونيًا ودينيًا هذه المرة، بل اقترب أكثر إلى ذات المرأة الأهوازية عندما رسم لها ذكريات شهدتها هي، وشكّلت ذاكرتها الجماعية دون أن تنقلها من أحد، لا سيما في ظروف حادة تصيب مجتمع ما تقل الحساسيات نسبيًا تجاه المرأة، لتصبح بذلك الشريكة في الدور الاجتماعي، عكس المرات الذي يعيش المجتمع حالة رتيبة.

مختلف

لم تكن تحب الأقنعة، عشقته لأنه صاحب مبدأ ورجل ذو وجه واحد،

عندما أجريَّ عليه الحكم كان مُقَنَّعا، وقتها آمنت أن بعض الأقنعة ليست سيئة. (مختلف، نون النضال، 36)

هذه القصة التي تشرح صفات الرجل _صاحب مبدأ، ذو وجه واحد_ تبدو تسرد قصة الرجل أكثر من المرأة التي عشقته للوهلة الأولى، لكن العنوان يوحي عكس ذلك؛ إذ إن الرجل صاحب المبدأ مختلفًا للمرأة التي أحبته وليس لنفسه، إذن التوصيف لم يكن للرجل وحده في هذه القصة وحسب، بل أصبح المرآة التي عكست صفات المرأة عبرها، لتكوّن بذلك ملامح المرأة التي تختار شريكها وفق مبادئها وأفكارها.

“دمار”

دائما ما تدخل مكتب مستأجرهم، تقدم له الإفطار،

تقول: إفطار الصائم مَثوب. مرةٌ فاتحها بأن الكثير يدخلون المكتب يريدون المخدرات؟

قاطعته: لا بأس، ارسلهم إلينا. (دمار، نون النضال، 35)

في هذه القصة يرسم الكاتب صورة المرأة المنافقة عبر التناقضات في السلوك؛ المرأة التي اختزلت من الدين صورته، وتركت جوهره الأساسي؛ ذلك أنها تقدم الإفطار لمستأجرها وتنشد التراتيل الدينية، فيما تبيع المخدرات المدمرة في بيتها. يرجع النفاق إلى البيئة التي تكتنف الفرد، والتنشئة الاجتماعية غير الصحيحة، وتضطلع المرأة بطبيعة البيئة والمجتمع أكثر من الرجل؛ إذ إنها الفرد الذي يحتمل أكثر الضغوطات المجتمعية، لذا يزداد النفاق عند المرأة في المجتمعات التي تقهر نساءها ضمنيًا وعلنيًا.

“تفتيش”

ليلة صيفية، كنت أفكر في الكرامة، وعلى جمالية الفكرة أسدل النوم ستائره.

دُهِمت، سُجِنت، عُذِّبت، وبعدها أُعدمت شنقًا، أفقت من النوم، وضعت يدي على عنقي، إنه أضغاث أحلام،

نهضت لأغسل وجهي.

أختي الصغيرة: ما هذا الإحمرار الذي حول عنقك؟

ظننته حلما. (تفتيش، نون النضال، ص 20)

هنا نواجه الرجل بداية عندما نوغل في القصة؛ الرجل الذي كان يفكر بالكرامة قبل النوم، ثم يعدم في الحلم، وعندما يستيقظ موقنا أن ما حدث له كان حلما، يأتي دور الأخت الصغيرة المنبهة التي تشير إلى إحمرار عنق أخيها. يشير السارد في هذه القصة الرمزية إلى ما توصل إليه علم النفس الحديث تجاه الحلم؛ إذ يرى أن الواقع يعكس نفسه في الحلم، وخاصة ما يشغل الفكر البشري قبل النوم، ذلك من خلال قوله إن الرجل كان يفكر بالكرامة؛ أي إن الرجل بعد أن فكر بالكرامة، جاءت تعاقبات التفكير بالكرامة إلى الحلم، ذلك لأن الحلم لا يشذ عن دائرة الواقع، فيما جاءت الأخت الصغيرة لتشير إلى إحمرار عنق أخيها؛ أي إنها تمثلت الجيل الجديد المدرك لواقع المجتمع، والمنبه للإحمرار الذي يرمز إلى المخاطر التي تحيط بالمجتمع. في هذه القصة أيضًا يشير الكاتب إلى مشاركة الجنسين الضرورية في عملية بناء مجتمع واع.

“وصية”

صِبية جالسون في الزقاق.

أولهم: أبي يشجعني أن أغتنم الفرصة مهما كانت لأنجح.

الثاني: أبي يقول: الناس كالغرقى إن لم تضع يدك على أكتافهم لن تنجح.

الثالث: أبي يحرضني أن أتحالف مع الشيطان إن اقتضت المصالح.

الرابع: أبي أوصى أمي أن أنشئي ولدنا على قيم وأفعال لا تخالف مبادئ الأحرار.

سأله أحدهم: متى هذا؟

أجابه: قُبيل إعدامه بساعات. (وصية، نون النضال، 16)

في قصة وصية وكما يتضح من اسمها تدور حول الوصايا التي تنتقل من الأسرة إلى الشبان الذين يتناورون في الزقاق، فيجد القارئ أن من بين أربعة شبان ثلاثة منهم أخذوا الوصية من الأباء وليس الأمهات، وإنها لوصية نفعية بحتة، غير أن الاختلاف جاء والشاب الرابع؛ إذ إن الناقلة كانت أمه وكذلك محتوى الوصية جاء بمفاهيم عالية، مختلفة عن مفاهيم أقرانه، بيد أن أباه غير موجود؛ لذا راحت الأم تنقل مفاهيم الأب بناء على الوصية إلى ابنها.

النتائج

مجموعة نون النضال القصصية من بين ثمان وثمانين قصة احتوت ستة عشر قصة ذُكرت المرأة فيها موضوعًا أو شخصية ثانوية، وقد صب اهتمام الكاتب على المرأة الأهوازية دون سواها، لا سيما فئة خاصة منها، الفئة الواعية أو المحاطة بفئة واعية بظروف المجتمع الأهوازي، وقد شذَّت أربعة قصص عن هذا التقسيم، لكن الأغلبية الساحقة كانت للفئة التي ذُكرت. وقد جاءت صورة المرأة الأهوازية في عدة أوجه؛ المرأة المشاركة في بناء المجتمع في قصة هي وهو، سلمى، هيام، والتحاق. والمرأة المحافظة على الذاكرة الجماعية ونقلها في قصة الوصية والرسم. والمرأة المستقلة في قصة مؤثرة. والمرأة الأمل والمحافظة على الهوية في قصة إضفاء وتفتيش. والمرأة المنافقة في قصة دمار. والمرأة العاطفية والتقليدية في قصة حب وقاتل محظوظ. والمرأة الطموحة إلى التغيير السلمي في قصة ربما. والمرأة ذات المبادئ الصادقة في قصة مختلف. والمرأة ذات الخصوبة الفكرية مقابل عكسها في قصة جدب وخصب. كذلك جاء محتوى القصص المحللة أعلاه مرتبطا بالواقع ارتباطا وثيقًا، إضافة إلى أن علاقة المرأة بالرجل جاءت سليمة وهذا ما يكشف إهمال الكاتب لفئة نسائية معينة وكبيرة، برغم أن الكاتب سلط الضوء على المجتمع الأهوازي وانعكاس تخلّفه على بعض الشخوص النسائية، غير أنه أغفل الصدام بينها وبين الرجل. وإن الكاتب صوَّر الآخر الذي يضد المرأة هو الآخر ذاته الذي يضد الرجل والمرأة سواء بسواء، وأنه لأهمل دور الرجل في كبت المرأة في غالب الأحيان، وإذا كان الرجل يعاني من سياسات الآخر المسيطر فالمرأة تعاني من الجهتين.

 

المصادر

[1] . جميل حمداوي، القصة القصيرة جدا: تاريخها وفنها ورأي النقاد فيها، موقع صحيفة المثقف.

[2] . المصدر ذاته.

[3] .سعيد مقدم، القصة القصيرة جدا وعنصر التكثيف ونماذج من قصص الأهوازيين، موقع شباب مصر، 2018.

[4] . جابر أحمد عصفور، الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي الغربي بيروت، الدار البيضاء، ص 392.

[5] . فايز يحلف، مجلة دورية محكمة، الصورة والتواصل البصري، 2011، ص136 .

[6] . جهاد بولوسة، سهيلة حميدي، صورة الرجل في رواية لن يمس قلبي بشرًا ل: سهيلة قواسيمة، جامعة الشهيد حمه لخضر_الوادي، 2018، ص 25.

[7] . فوزية العشماوي، المرأة في أدب نجيب محفوظ، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص 18.

[8] . زياد حيوسي، المرأة في الرواية العربية، www.Algeria.com، 2015.

[9] . سعيد إسماعيل، مقدمة في المرأة الأهوازية، موقع أنا مثقف، 2018.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى