سقطت الأقنعة وجفّت الصحف
سقطت الأقنعة وجفّت الصحف
د. تهاني رفعت بشارات
أمسينا نسمع أخبارنا من غيرنا، ولم تعد لدينا القدرة على الإصغاء إلا لوقع الموت الشقيق. أغاني كثيرة ومصطلحات جديدة باتت توقظ التاريخ، لكن التاريخ بحاجة إلى الوقود الذي يشعله، ونحن هنا بتنا كومة الحطب التي سيشتعل بها التاريخ، ثم ينتصر في النهاية أولئك الذين سهّلوا موتنا. أولئك الذين اتّشحوا بمسميات لا تليق إلا بملابسهم وخطاباتهم المرصعة بألوان الخداع لالتقاط صورهم على أبواب سلام مصطنع؛ الإنسانية والسلام والعدل وحقوق الطفل… الحمامة. يعيدون أمجاد سكسونيا من جديد؛ يحاكمون ظلالهم وينهالون علينا بكل ما أوتوا من أشكال القتل وضروبه. أليس المحكوم بالموت له أمنية واحدة؟ حققوا لي أمنيتي قبل أن تسووني مع الأرض كعجينة بيتزا، حققوا لي أمنيتي الوحيدة “أن أعتلي هذا العالم القذر”.
سقطت الأقنعة، وانكشفت الوجوه على حقيقتها. كلنا كان يعلم أن الوجوه لا تتبدل لأنها انعكاس للنوايا، والنوايا لا تتبدل لأنها جبلت على ما هي عليه، حتى وإن سقطت. نحن الآن في صراع مع الواقع المتأزم والوهم الذي جاء وليد الكلمات الناعمة، وكلاهما شبيهان لا يفصل بينهما إلا خيط رفيع. نحن الآن في منطقة الأعراف، نقف بين الجنة والنار، ولا ندرك أي طريق نسلك لنصل إلى الحقيقة، فهي وحدها التي تمكننا من فهم واقعنا المؤلم والابتعاد عن الوهم الكاذب.
نحن الآن في القاع، ندرك حجم الانتفاخ الثقافي الزائف الذي يتمتع به العالم، العالم الذي مهما تطورت علومه وصناعاته يعود إلى عصور الظلام. هذا العالم الذي يدعي الحضارة والرقي يعود إلى خلقه الأول، فيسفك الدم البريء ليشربه كأس انتصار. لقد سقطت الأقنعة وجفّت الصحف.
لا يسعفني في هذا الفراغ الواسع إلا معزوفة الموت. الصرير الذي بتنا نسمعه لم يعد صوت الهواء، فالهواء قد اختنق مع الغبار المنبعث من البيوت المهدمة. إنها موسيقى الموت، لعله الموت المؤجل الذي يقترب منا مع كل لحظة. لقد اغتالوا الهواء، فما عاد يرفرف بأجنحته فوق صدورنا، وما عاد يداعب سنابل وجهي، لقد ماتت السنابل وأسدلت الزهور أكفها، وتبعثرت الحجارة حتى صارت أشلاءً مجزأة، فلا حجارة تغطي أجسادنا في القبور. ولكني مطمئنة؛ فما عاد هناك حيوانات تنبش ترابنا، فقد ماتت جميعها.
تعلمنا هنا أن نكبر في اليوم عشرات السنين. لزام علينا أن نكبر كي نفهم. تعلمت مثلًا لم أعد أؤمن به: “أكبر منك يومًا، أعرف منك دهرًا”. أنا اليوم أصحح هذا المثل لأقول: “أكثر منك موتًا، أكبر منك عمرًا”. العمر ما عاد سوى رقم في السجلات المدنية، يتيح لك أن تحتل مكانًا ضمن عائلتك. ترى، ما المكان الذي سيحتله من مُسحت عائلته من سجل الأمنيات؟ وهل يحتاج حقًا أن يكبر أكثر من ذلك؟ هل بات الطفل الذي فقد أدنى درجات الأمان طفلًا؟ أظنه صار كهلًا حكيمًا، فالكهولة ما عاد ينعتها اللون الأبيض أو الوجوه الموسومة بالتجاعيد الجافة. الكف التي طالها الركام، وغبار الدمار الذي حل بنا، كلها جعلت هذا الطفل البريء كهلاً. بات يحلل الأحداث من حوله وكأنه محلل متمرس، يرصد كل ما حوله ويتوقع ويناقش ويقنع كبار المحللين ويتغلب عليهم. فالتجربة خير برهان، من يعلم غياهب الموت سوى من انغمس في عوالمه؟
كنت دائمًا رهينة للزمن، كان يعبث بي بكفيه الخفيتين، يصفعني متى شاء ويوبخني بالطريقة التي يشاء، ولم يكن لي حول أو قوة أمام جبروته. الآن ما عاد الزمن يرهقني؛ لقد توقف عند ساعة الصفر وتركني طليقة منه. الآن أصبحت على دراية أن الزمن نعمة في حياتنا؛ يوبخنا لنصحح مسار حياتنا وننصاع لمنظومته، فنصبح أكثر دراية وتطبيقًا لقوانينه.
نحن الآن نغرق في دوامة اللازمن. لا نعلم كم هو التوقيت الآن، لا نعلم نهارنا من ليلنا، لا نعلم أي يومٍ من الأسبوع نحن فيه، لا نعلم موعد نومنا أو صحونا، لا نعلم كم أصبحت أعمارنا، ولا ندرك أي الفصول حل بنا. هل نحن على قيد الحياة أم متنا؟ بتنا كأهل الكهف لا نعلم عددنا ولا كم لبثنا في صحونا أو موتنا.
أنا الآن أغرق في الظلام الدامس. اعتدنا الظلام قبل هذه الأيام العجاف، لكنه كان ظلامًا خفيف الظل. هل لكم أن تتخيلوا شكل الظلام العابس؟ لقد أصبح الظلام واجمًا، وجهه حاد وقاسٍ، يغطيه الحزن. وهل هناك أقتم من الحزن لونًا؟
البرد يتسلل إلى جسدي بطريقة غريبة. لا أحس بقشعريرة، وكأن دمي تجمد في عروقي التي باتت صلبة من هول المشهد الذي صار معتادًا لدى الجميع وموجعًا لديهم. كلنا الآن بتنا في حالة واحدة. التهمة تقع علينا جميعًا، ثم تسقط عنا جميعًا. هل حقًا أصبح المشهد عاديًا؟ أحقًا بتنا ننحدر نحو النجاة من الموت إلى الموت؟ لم يبق من حولنا سوى الموت لنهرب إليه.
حين تعلو الأصوات، فإنها تثير الآذان فتسمعها، لكن أصواتنا كلما علت ازدادت الآذان صممًا. باتت العلاقة بينهما عكسية. نظريات الطب والفيزياء الحديثة ستعمل جاهدة على اكتشاف حقيقة هذه الظاهرة الغريبة، ثم تصبح مثل قانون نيوتن مع مفارقة بسيطة: أنها ظاهرة بشرية لا كونية.
لعل أصوات القنابل المتفجرة والنيران المشتعلة أضحت أعلى من أصواتنا! أو أن حناجرنا أصبحت بكماء، نصرخ فلا يسمعنا إلا أنفسنا، أو أن العالم بات يروق له مشاهد الموت. هذا العالم الظالم سوف ينفجر تمامًا كما نظريات التكوين التي اجتهدوا في محاولات معرفة علم الغيب والتكوين.