الهجوم الإيراني مصمم على مقاس السياسة
الهجوم الإيراني مصمّم على مقاس السياسة
أ. نسيم قبها
كان متوقعًا ومنطقيا شن الحرس الثوري الإيراني ضربة صاروخية قوية وغير مسبوقة على دولة الإحتلال الصهيوني مساء الثلاثاء ، طالت قواعد جوية ومواقع أمنية صهيونية في مناطق مختلفة في الكيان. وقد أظهرت مقاطع مسجلة لتساقط الصواريخ على مواقع إسرائيلية وسط بهجة عارمة غمرت قلوب الجماهير في البلاد العربية وأثلجت صدورهم، وبخاصة في الضفة الغربية وغزة والأردن، ولم يُعكر صفو بهجتهم سوى تصدي الدفاعات الجوية الأميركية والبريطانية والفرنسية لبعض الصواريخ الإيرانية في سماء الأردن. وعن دوافع هذا الهجوم قال الحرس الثوري الإيراني: “ردًا على استشهاد إسماعيل هنية والسيد حسن نصر الله والشهيد نيلفوروشان استهدفنا قلب الأراضي المحتلة”. وقال رئيس هيئة أركان القوات المسلحة اللواء محمد باقري: مررنا بفترة صعبة من ضبط النفس منذ اغتيال هنية في طهران عقب الطلبات المتكررة من الجانب الأميركي ووعوده بوقف إطلاق النار في غزة، لكن الوضع لم يعد يحتمل عقب استشهاد السيد نصر الله والعميد نيلفروشان. كنا نملك القدرات لاستهداف المنشأت الاقتصادية للكيان المجرم لكننا ضربنا فقط القواعد العسكرية. هجماتنا طالت قاعدة الموساد وقاعدتي “حتسريم” و”نفاتيم” الجويتين ورادارات ومراكز تجمع لدبابات الصهاينة. بينما قال وزير الخارجية الإيراني: “الهجوم يخدم الاستقرار في المنطقة ويعيد إليها الردع الجيوسياسي”. وأضاف “هناك احتمال لاستمرار المواجهة مع إسرائيل في الأيام المقبلة وقواتنا على أهبة الاستعداد”. وقال إن تحرك إيران انتهى ما لم يقرر النظام الإسرائيلي استدعاء مزيد من الرد. وإن أي عمل جديد من قبل الكيان الصهيوني أو من داعميه سيواجه برد أكثر شدة.
ومن جانبه صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إن “إيران ارتكبت خطأً كبيرًا وستدفع ثمنه” بينما هدد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بالرد قائلًا: “سنثبت قدراتنا الهجومية الدقيقة والمفاجئة” في الوقت الذي نحدده. وأهم ما في هذا الهجوم أنه جاء وسط نشوة الاستعلاء التي أظهرها نتنياهو وشركاؤه المتغطرسون في الحكومة، وعزمهم على مواصلة العربدة والبلطجة المشحونة بسكرة الدم وشهوة القتل والإجرام والتوسع وتغيير موازين القوة في الشرق الأوسط كله. وهو ما أعلنه نتنياهو غير مرة بعد اغتيال حسن نصر الله، وبعد الإنجازات العسكرية والأمنية التي حققها في لبنان في الأسبوع الأخير. حيث كثف من قصف الضاحية الجنوبية في بيروت ومدن وبلدات الجنوب اللبناني والبقاع، وهاجم اليمن ومواقع عسكرية سورية وإيرانية على الأراضي السورية، ووجه خطابًا للشعب الإيراني يقول فيه: “لا يوجد مكان في الشرق الأوسط لا تستطيع إسرائيل الوصول إليه”. وتابع “عندما تتحرر إيران أخيرًا -وسوف تأتي تلك اللحظة أسرع بكثير مما يتصوره الناس- فإن كل شيء سيكون مختلفًا”. وهو ما ينطوي على نية قيامه بعمل استفزازي ضد إيران، ليس لتوسيع الحرب بقدر ما هو سعي لتغيير قواعد الاشتباك بشكل يطلق يده لضرب مفاعلاتها النووية متى شاء، مفسرًا تأخرها في الرد على اغتيال هنية ضعفًا، ومعتقدًا أن ردها لن يتجاوز ما قامت به في منتصف نيسان/إبريل من هذا العام؛ وهو ما شجعه على اغتيال حسن نصر الله، والتطلع لاجتياح جنوب لبنان بريًا، وتفكيك قدرات حزب الله، وتجريد إيران من أهم أذرعها في محور المقاومة، وتغيير ميزان القوة في المنطقة، ومن ثم تغيير الشرق الأوسط؛ أي إفراغه من المنافسين ومشاريعهم، وإفراغه من أي جهة تملك القدرة على التأثير في النهج الإبراهيمي القائم على إعادة تعريف الوجود الإسرائيلي واعتبار وجوده أصيلًا في المنطقة، ونفي صفة الاحتلال والاستعمار عنه، والوصول من ذلك إلى “شرق أوسط جديد” عرفه كوشنير المسؤول عن ملف المنطقة في عهد ترمب بأنه “الخالي من ترسانة إيران الحربية”.
وبتجريد إيران من أهم ذراع لها وهو حزب الله وتغيير ميزان القوة في لبنان، تفرغ لـ”إسرائيل” الساحة من الند العسكري في المنطقة بأسرها؛ لأن إيران هي الدولة الوحيدة التي تملك قدرات ردع مقلقة لـ”إسرائيل” باعتبار أن جيوش الدول العربية غير مصمَمَة للقتال . وأما تركيا فجيشها مقيد بحلف الناتو المكلف بالدفاع عن المصالح والقيم الغربية والمصالح القومية التركية.
غير أن هذا الطموح الصهيوني وإن كان يتقاطع مع المشروع الأميركي بشأن دمج إسرائيل في المنطقة عبر النهج الإبراهيمي، وبشأن تحجيم نفوذ إيران، ورغم أن إيران لا ترغب بتوسيع نطاق الحرب، وبخاصة مع الانفتاح على الغرب والأولويات التنموية التي يتبناها الرئيس الإيراني بزشكيان وشركاؤه الإصلاحيون، إلا أن الولايات المتحدة وإدارة بايدن لا ترغب بتوسيع نطاق الحرب، وتعمل على تجنبها حفاظًا على مصالحها في المنطقة، ودرءًا لمخاطر تبدل أولوياتها الدولية، بالإضافة إلى الظرف الانتخابي الحساس.
ومن جهة أخرى ثمة ظروف إيرانية داخلية تمنع من استمرار صمت القيادة الإيرانية الإصلاحية بقيادة بزشكيان وظريف وعباس عراقجي على مخططات نتنياهو وحكومته المتطرفة لناحية التنافس مع المحافظين. وهو الأمر الذي شكل عاملًا حاسمًا في تعجيل الرد الإيراني وحجمه.
إنَّ إدارة بايدن لم تسعَ لمنع إيران من الهجوم، أو تحذرها من حدته، ولم تستعمل طاقتها بفاعلية للتصدي للهجوم الصاروخي الإيراني، رغم مضاعفتها لقواتها العسكرية في المنطقة عما كانت عليه أثناء الهجوم الإيراني السابق. بالإضافة إلى رغبتها بضبط جماح الثور الصهيوني الديني الهائج في المنطقة، والذي قد يورط إدارة بايدن بحرب لا مصلحة لها فيها، سيما وأن الوقت ليس في صالح المرشحة الديمقراطية كمالا هاريس، ولذلك استغل ترمب مشاهد القصف الصاروخي الإيراني على “إسرائيل”، ونشرها على حسابه في مواقع التواصل مدعيًا أن هذا لم يكن ليحصل لو كان رئيسًا.
أما من جهة إيران فلم يكن في حسابها القيام بعمل يعيق توجه انفتاحها على الغرب لرفع العقوبات ومعالجة الملف النووي وتحسين أوضاعها الاقتصادية، وقد ظهر ذلك في مواقف قادتها حتى بعد اغتيال حسن نصر الله. إلا أنه ومنذ أن ألقى بزشكيان خطابه في الأمم المتحدة، وما تبعه من اغتيال لنصر الله والسجال محتدم بشراسة بين المحافظين والمتشددين في البرلمان أمثال حسين أمير صابتي، مستشار سعيد جليلي الذين يطالبون بحماية فصائل المقاومة، والقِصاص من الكيان الصهيوني واستعادة الردع، وبين الإصلاحيين الذين يعتبرون قضية فلسطين واليمن ولبنان ليست قضيتهم مثل جواد ظريف. وهو ما ألجأ بزشكيان للذهاب إلى مقر حزب الله في طهران وتقديم العزاء شخصيًا من شدة النقد.
وفي ظل هذه المعطيات جرى (تصميم ) الرد بشكل يقوض إنجازات نتنياهو ويحذره من المغامرة، ويحمل رسائل سياسية أكثر من رسائله العسكرية. علاوة على رسالة الدعم المعنوي لأذرع إيران، وبخاصة حزب الله الذي خسر قيادته ويخوض معركة وجود لها تداعيات على محور المقاومة ومعادلة الصراع في المنطقة وعلى إيران بشكل مباشر.
وأما آفاق الصدام الحالي، فالحقيقة أنه لا رهان على مواقف نتنياهو، إذ يعتمد استمرار التصعيد المباشر بينه وبين إيران على الأهداف التي سيحددها، فإذا ضرب مواقع استراتيجية إيرانية فسوف تشهد المنطقة وتيرة عالية من الاشتباك العنيف وعض الأصابع. والذي يتطلب جهدًا كبيرًا من الولايات المتحدة لاحتوائه. ولكن سيناريو تبريد النزاع عبر تبادل اللكمات القوية المتوقعة والتي سيبدو فيها الطرفان قد حققا الردع المطلوب والعودة إلى المربع الأول هو السيناريو الأرجح في ظل المعطيات الراهنة، وبخاصة وأن الأولوية لحكومة نتنياهو رغم أنها تُعد لضربة مؤذية لإيران هي تحطيم حزب الله وحسم الجبهة على الجانب اللبناني؛ وهو الأمر الذي تجمع عليه كافة القوى السياسية العسكرية والأمنية والمستوى الشعبي في الكيان الغاصب، ولا تعارضه الولايات المتحدة.
إن الضربة الصاروخية الإيرانية قد أظهرت هشاشة الكيان الصهيوني مرة أخرى ، وأنه ليس أكثر من عصابة تم ترتيبها على صورة دولة لا تتحمل خسارة حرب ، الأمر الذي يعني أن الدور الإيراني ليس منوطا بإزالة إسرائيل ، إنما في تقاسم النفوذ.