إسرائيل وإيران من قواعد الاشتباك إلى هيمنة الردع
إسرائيل وإيران من قواعد الإشتباك إلى هيمنة الردع
أ. نسيم قبها
بعد الرد الصاروخي الإيراني الأخير على اغتيالات ( إسرائيل ) لأذرع إيران في المنطقة ، باتت هذه اللكمات العسكرية ، والردود المتبادلة بين إسرائيل وإيران تندرج ضمن حسابات سياسية واستراتيجية لكلا الطرفين عبر سياسة شد الحبل وعض الأصابع. وفي هذا السياق فقد صرّح وزير الأمن الإسرائيلي: من يعتقد أن محاولة استهداف سلاح جونا ستردعنا فلينظر إلى بيروت وغزة. ولا يخفى أن الاستفزازات والاعتداءات الصهيونية على إيران إنما تهدف إلى تغيير موازين القوى في الشرق الأوسط وتقويض النفوذ والمكتسبات الإيرانية لصالح الكيان الصهيوني ومشروعه الاستعماري الذي ترعاه الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون وأتباعهم في المنطقة، وهو ما عبر عنه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي بقوله: “هذه لحظة تاريخية، ليس فقط للإسرائيليين، بل وللبنانيين والعرب والمسيحيين الشرقيين”. كما لم تسلم تركيا من تهديدات دولة الإحتلال، وهو ما يُفهم من تعليق غالانت على الغارات الإسرائيلية على اليمن بقوله “لا يوجد مكان بعيد جدًا بالنسبة لإسرائيل”، وهو الأمر الذي أثار حفيظة أردوغان ودعا البرلمان التركي لمناقشة التحدي الإسرائيلي، لا سيما وأن للمليشيات الكردية العراقية والسورية والتركية علاقات مع الكيان الصهيوني.
وفي ضوء التوجه الصهيوني والمعطيات المحيطة بالمنطقة ، يحاول نتنياهو تحطيم حزب الله الذي يعتبر الركيزة الأساسية لأذرع إيران المسلطة على كيانه، ويعمل على تعزيز شعبيته وتحصين حكومته وحزامها البرلماني وتوجهاتها التصعيدية ومخططاتها بعناصر من نفس قماشته السياسية كجدعون ساعر. فعلى الصعيد اللبناني يعتزم نتنياهو فرض منطقة أمنية عبر تفريغ البقاع وجنوب الليطاني من خلال القصف الجوي والاجتياح البري الذي لا يزال مستعصيًا بسبب مقاومة حقيقية ، وجبن الجنود الصهاينة، تمامًا كتفريغه لشمال قطاع غزة وفصله عن جنوبه ضمن ما يسمى “خطة الجنرالات” لفرض منطقة أمنية عبر التجويع والمذابح المتتابعة والتي تنطوي على التهجير القسري، والتي تلقى شجاعة لا ملفتة من قِبل أهل غزة جميعا.
ويسعى نتنياهو كذلك إلى تقويض قوة حزب الله في الحكومة وتحقيق مآربه بشأن الحدود البرية والثروات البحرية. يسانده في ذلك مواقف القوى المنافسة لحزب الله. حيث دعا سمير جعجع زعيم مليشيا “القوات اللبنانية” في مؤتمر بعنوان “دفاعًا عن لبنان” إلى ضرورة نزع سلاح حزب الله. واستعادة الدولة منه ومن إيران. وحرّض على الحزب من خلال تحميله مسؤولية الدمار والفساد والهيمنة على الدولة بالسلاح. وفي وقت سابق من هذا العام هاجم البطريرك الماروني اللبناني بشارة بطرس الراعي حزب الله واعتبر أن الشعب اللبناني “يرفض أن يكون رهينة ودرعًا بشرية وكبش فداء” لـ”ثقافة الموت التي لم تجلب سوى انتصارات وهمية”. وفي هذا الجانب تتقاطع مصالح نتنياهو مع الولايات المتحدة ومن يدور في فلكهم في استثمار فرصة ضرب حزب الله لإنهاء حالة الفراغ الرئاسي والمطالبة بتعيين رئيس للجمهورية. وهو الأمر الذي نادت به إسرائيل والولايات المتحدة.
وأما بشأن إيران فيسعى نتنياهو إلى جر الولايات المتحدة للمواجهة معها لضمان تحقيق أهدافه في المنطقة. فمنذ الهجوم الإيراني الواسع وإسرائيل تستعد لما أسمته بالرد القوي والقاسي ومن ذلك قيام سلاحها الجوي بمناورات عسكرية فوق البحر المتوسط، تتضمن محاكاة لرحلات طويلة المدى والتزود بالوقود جوا. فيما تخوض مع الولايات المتحدة نقاشات حول المواقع الإيرانية التي تريد استهدافها، إذ تعترض الولايات المتحدة على استهداف الكيان المحتل للمنشآت النووية والنفطية الإيرانية وتحاول احتواء الموقف وتبريده عبر الإغراءات والمساعدات للكيان الصهيوني وعبر الضغوط المختلفة على الجانبين لما للحرب الواسعة من تداعيات جمة على الإقليم والمصالح الأميركية، ولما لها من تداعيات اقتصادية وسياسية تدخل في حسابات الإدارة الأميركية لناحية أثر توسع الحرب على أولوية بناء الردع الأميركي في مواجهة الصين وروسيا، وأثرها على أسعار الطاقة وعلى التحالفات والعلاقات الدولية، وعلى أنظمة المنطقة ومسار الحل الإقليمي والنهج الإبراهيمي، وعلى حملة الحزب الديمقراطي الانتخابية الحرجة، حيث أدى تمحور المواقف السياسية من إسرائيل حول المزايدات الانتخابية من ضعف إدارة بايدن أمام التعنت الصهيوني وعرّضها لنقد داخلي لاذع بلغ حد تندّر النُقاد بضعفها وقولهم “إن إدارة بايدن تتصرف مثل الكلب الذي قرر أن ذيله يجب أن يهزه”!!. وفي هذا الصدد تفيد التقارير الإخبارية بأن الديمقراطيين يسودهم قلق متزايد بشأن “فشل بايدن في كبح جماح نتنياهو وما قد يعنيه لآفاق هاريس في انتخابات متقاربة”.
ولا يخفى أن توسع الحرب يستوجب توجيه الموارد المالية والعسكرية الأميركية إلى الشرق الأوسط على حساب موارد المواجهة مع الصين وروسيا، بالإضافة إلى أثر توسع الحرب على أسعار الطاقة فيما إذا تعرض مضيق هرمز الذي يمر منه نحو40% من النفط العالمي إلى إغلاق، والذي قد يزيد من اعتماد الصين والهند على الطاقة الروسية ويُعمق العلاقة بينهم، وإن كان تصعيد المخاطر في مضيق هرمز وباب المندب يخدم الخط التجاري الموازي والمنافس للحزام والطريق الصيني والمزمع إطلاقه من الهند إلى البحر المتوسط ومنه إلى أوروبا عبر الخليج العربي والأردن و”إسرائيل”، وهو المشروع الذي يخدم أيضًا دمج إسرائيل في المنطقة من البوابة الاقتصادية، وهو ما صرح به الرئيس الأميركي.
ولذلك تسعى أميركا لضبط الرد الإسرائيلي على إيقاع مصالحها الدولية التي تتعدى الشرق الأوسط، ومن ثم تسعى لإبقاء النزاع الصهيوني مع إيران ضمن قواعد الاشتباك ولو بسقف مرتفع ينتهي إلى حدود الردع، لئلا تنزلق المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة، تختفي فيها الخطوط الحمراء، وتضع المصالح الأميركية في أتون حرب ضروس. وهذا ما يُفسر إفشاء إدارة بايدن للإعلام عن نوايا الحكومة الإسرائيلية بشأن الرد الصهيوني على الهجوم الإيراني، ويفسر كذلك قلق الولايات المتحدة مما يخطط له نتنياهو.
وفي هذا السياق انتقد صحفي إسرائيلي مقرب من نتنياهو الولايات المتحدة بسبب تسريبها لخطط تل أبيب المتعلقة بالهجوم على إيران. صحيح أن أميركا لا تفرط بأمن الكيان الصهيوني بحال، لكنها تحاول الموازنة بين الأولويات وسط تشابك مصالحها وتقاطعها مع الكيان الغاصب وإيران أو تضاربها معهما. ومن الواضح أن تأخر الرد الصهيوني على الهجوم الإيراني ناجم عن خلافات محورية بشأن قوة الرد وحجمه ونوعية المواقع المستهدفة، وأثر ذلك كله على المصالح الأميركية، ومن الواضح أيضًا أن نتنياهو يحجب المعلومات عن الولايات المتحدة، ولذلك منع وزير الأمن يوآف غالانت من زيارة واشنطن لبحث الرد الإسرائيلي على الهجوم الإيراني مع نظيره الأميركي. وفي الوقت الذي قال فيه بعض المسؤولين الأميركيين العسكريين إن التعامل مع الإسرائيليين أصبح أكثر صعوبة بالنسبة للبنتاغون، حيث أوضحت إسرائيل أنها لن تحذر الولايات المتحدة قبل أن تتخذ إجراءات ضد ما تعتبره تهديدات وجودية، ألمح مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان للوزير الصهيوني ديرمر أنه إذا لم تكن الولايات المتحدة مطلعة على ما تخطط له الحكومة الإسرائيلية فقد لا تتحرك أميركا للمساعدة في التصدي لأي هجوم إيراني في المستقبل. كما نقلت وكالة رويترز عن مصدر أميركي أن: “إسرائيل تتباطأ في مشاركة تفاصيل خططها مع واشنطن بشأن الرد على إيران”. ونقلت سي إن إن عن مسؤول أميركي قوله: “لا نضع كثيرا من الثقة في مكائد الحكومة الإسرائيلية”. ومن جانب آخر تحاول الدول العربية أن تنأى بنفسها عن مساندة نتنياهو ضد إيران لحماية المصالح الأميركية من ردود الفعل الإيرانية، واستجابة للرغبة الأميركية بتقليص حجم الرد الإسرائيلي على إيران لتفادي انزلاق المنطقة لحرب إقليمية، حيث أبلغت السعودية والإمارات والأردن وقطر إدارة بايدن أنها لا تريد أن تستخدم الولايات المتحدة أو إسرائيل بنيتها التحتية العسكرية أو مجالها الجوي في أي عمليات هجومية ضد إيران. كما قامت إيران عبر جولة وزير خارجيتها في المنطقة بتحذير الدول العربية من مساعدة “إسرائيل” وتحييدها لنفس الغرض. ورغم أن كل ذلك يؤكد أن الإدارة الأميركية تحاول الضغط على إسرائيل لتقليل حدة التصعيد مع إيران ولكن توجه نتنياهو يشي بأنه يخطط لاغتنام الفرصة وضرب إيران ضربة واسعة وعنيفة تغير قواعد الاشتباك وتحقق “هيمنة الردع” التي تمليها العقيدة العسكرية والأمنية الإسرائيلية، وهو الأمر الذي كان قد كشف عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق نفتالي بينيت بقوله: “نحن ننفذ مبدأ الأخطبوط. لم نعد نلعب بالمخالب، مع وكلاء إيران: لقد خلقنا معادلة جديدة بالذهاب إلى الرأس”. وبالتالي فإن الرد الصهيوني يهدف في الاستراتيجية قصيرة المدى إلى تحقيق “هيمنة الردع” ويهدف من ناحية استراتيجية بعيدة المدى إلى تقليص قدرات إيران العسكرية والاقتصادية وتحطيم أذرعها وضرب خطوط الإمداد في سوريا مستغلًا ترك النظام السوري مسافة مع الإيرانيين وسعيه إلى تضييق المسافة مع الحاضنة العربية والدول الأوروبية وهو الأمر الذي بدا واضحًا في إعادة افتتاح بعض السفارات العربية والأوروبية في دمشق، وبخاصة بعد أن أدركت الدول الأوروبية أن العقوبات الأميركية على النظام السوري تهدف إلى إقصائهم وانفرادها في التعاطي معه. كما يهدف نتنياهو أيضًا إلى توسيع رقعة الحرب وتوريط إدارة بايدن وإضعاف حظوظ كمالا هاريس الانتخابية لصالح ترمب، وفرض وقائع جديدة في الشرق الأوسط تتفق مع الرؤية الإنجيلية والنفعية لترمب وفريقه من المحافظين في الدولة العميقة والذين يأمل نتنياهو وحكومته أن ينجز مشروعه من خلالهم.
وأما الجانب الإيراني فقد أعلن غير مرة عن رغبته بالتهدئة وأن إيران لا تسعى لحرب مع “إسرائيل” ولا سيما في ظل حكم الرئيس بزشكيان. وقد ظهرت اللهجة التصالحية الإيرانية مع الولايات المتحدة والغرب وتخفيف لهجة التصعيد من خلال تصريح الرئيس الإيراني بأن: الهجوم على إسرائيل كان لكبح سلوك الكيان وإحلال السلام في المنطقة. كما ظهرت من خلال تصريحات وزير الخارجية الذي ألمح إلى أن الرد الإيراني سيكون بحسب الرد الإسرائيلي وبحكمة وتعقل. ولولا ضغوط الجناح الإيراني المحافظ والجناح العسكري لسهل على الولايات المتحدة والكيان الصهيوني تصفية حماس وحزب الله. ولهذا يصر نتنياهو منذ زمن على تجفيف المقاومة من النبع واستهداف الرأس مباشرة. ورغم أن القيادة الإيرانية تدرك ذلك جيدًا لكنها لم تتصرف بمقتضى هذا الإدراك ، الأمر الذي يعني أن هوية إيران العقائدية في حالة من الإهتزازات وعدم الثبات.