لبنان: من متراس ايران الى سلام أمريكا
لبنان : من متراس ايران الى سلام اميركا
د. حارث سليمان
في مقالتي السابقة التي حملت عنوان ” رخصة قتل مفتوحة على مدى اسابيع ” توقعت خلافا لما حصل ان تمتد الحرب في لبنان الى حين تسلم ترامب مسؤولية الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية في مطلع السنة القادمة، وقد بنيت تقدير موقفي على أربعة عوامل أساسية؛ الأول رجحان كفة الميدان العسكري لصالح العدو الاسرائيلي، الثاني الموقف الشعبي العربي والدولي الذي يتعايش مع العدوان الاسرائيلي دون تحرك او غضب او مظاهرة، الثالث تأييد اغلبية ساحقة من الإسرائيليين لاستمرار الحرب على لبنان، أما العامل الرابع فهو عجز ادارة بايدن في آخر ايامها عن لوي ذراع نتنياهو وفرض اتفاق وقف اطلاق نار عليه.
وعلى الرغم من صدق هذه العوامل الاربعة وصحتها، فقد حصل وقف اطلاق النار واصبح واقعا حقيقيا خلافا لما توقعت واستنتجت.
في مقابلة اجريتها مع جريدة الأنباء الكويتية قلت ان ” التسوية بين لبنان وإسرائيل حول تطبيق القرار الأممي 1701 لن تتحقق إلا وفقا للقراءة الغربية القائمة على تلازمه مع تطبيق القرار المندرج منه 1559 ، أي إنهاء كل ظهور مسلح فوق الأرض وتحتها في جنوب الليطاني، إضافة إلى ضبط المطار ومرفأ بيروت والمعابر الحدودية مع سورية لمنع توريد السلاح إلى غير الشرعية اللبنانية… و أن المسودة الأميركية لوقف إطلاق النار والتي حملتها السفيرة الأميركية في لبنان ليزا جونسون إلى كل من الرئيسين بري وميقاتي، تعطي إسرائيل حق التدخل العسكري في كل ما لا تراه مناسبا لأمنها، ما يعني ان المسودة الأميركية المعروضة على الدولة اللبنانية عقد إذعان كامل الأوصاف والمواصفات، لا يمكن للبنان أن يقبل به».
وكتبت أيضا على صفحتي في الفايسبوك ان شروط العرض الاميركي الاسرائيلي على لبنان، لإبرام وقف لإطلاق النار، والمدعوم فرنسيا، هو دعوة لحزب الله وايران لتوقيع عقد اذعان يستجيبان فيها لكل الشروط الإسرائيلية، ويؤسس هذا العقد لواقع جديد يكون لاسرائيل فيه اليد العليا في المراقبة والتنفيذ والمبادرة.
واما سبب استعادتي للمقالة السابقة فهو أولاً رغبتي بالاعتذار مِمَن تايع هذه المقالة، التي قد تكون سببت حزنا او خوفا أو يأسا تمت زيادته ومراكمته لمآسي الحرب وأهوالها، أما السبب الثاني فهو ان الخطأ الذي وقعت به كان ناتجا عن استبعادي لعاملين أساسيين كانا حاسمين في فتح الطريق الى إنجاز وقف اطلاق النار واعلانه.
العامل الأول هو قبول حزب الله ومعه إيران بعقد الإذعان المطروح والالتزام بمندرجاته كافة، واخذ العلم و إبداء الرضا عن ورقة التفاهم الاميركية الاسرائيلية والتي تعطي اسرائيل اليد العليا في لبنان وتتيح لها حرية الحركة كاملة، لاستهداف اي سلاح او موقع او منشأة لحزب الله، جنوب الليطاني، اذا اغفل الجيش اللبناني ازالتها او تمهل في معالجتها، كما تتيح لها ضرب اية محاولة لتسليح حزب الله وإعادة بناء قدراته العسكرية واللوجستية، عبر مطار بيروت الدولي أو المرفأ، او عبر المعابر الحدودية البرية رسمية كانت او غير شرعية، إضافة لذلك يمنع القرار 1701 اية دولة في العالم، بما في ذلك ايران وسورية، من توريد أسلحة او معدات قتالية الى حزب الله أو اية مجموعات مسلحة سوى القوات التابعة للحكومة اللبنانية والتي جرى تعدادها وذكرها حصرا.
وبصراحة تامة فقد فوجئت بقبول إيران وحزب الله شروط هذه الصفقة وصيغتها.
ولتغطية فجاجة الصفقة وصفاقة هذه الصيغة، فقد نجح الرئيس بري في ” تغطية الحمى ب قشور البصل ” عبر صياغة لغوية تموه الخضوع وتخفيه تحت تعبير يفيد بالتوازن!.
وعبارة حق الطرفين اي إسرائيل ولبنان بالدفاع عن النفس من ضمن الالتزام بالقانون الدولي، هو عمليا تفويض لإسرائيل بمراقبة نشاط حزب الله ومخازن أسلحته وخطوط إمداده ومصانعه وحركة كوادره وعناصره وضربها، وقد نص الاتفاق على استمرار اسرائيل في نشاط طيرانها الحربي ومسيراتها فوق لبنان على علو غير مرئي بالعين المجردة.
اما حق لبنان اللغوي وليس حق حزب الله، بالدفاع عن نفسه، فكيف يمكن ترجمته عمليا!؟ هل اذا استوردت اسرائيل شحنة من القنابل سيكون من حق حزب الله ضربها مثلا، فيما العكس حق لاسرائيل! ام اذا استوردت طائرات ومدافع هل يحق ل لبنان وحزب الله الاعتراض على ذلك او ضربها، والجواب بالطبع لا، ولذلك فالمؤدى العملي لهذه الجملة المتوازنة انشائيا، هو تفويض عملي لاسرائيل بحق ” تأديب ” حزب الله كلما انتهك بنود القرار الدولي ١٧٠١، حسب القراءة الأميركية الفرنسية للقرار، وليس حسب قراءة حزب الله، وكلما تمنع الجيش اللبناني عن ازالة هذا الانتهاك.
فالاتفاق يشير إلى التزام الجانبين بالتنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1701 ، بما في ذلك الأحكام التي تشير إلى “نزع سلاح جميع الجماعات المسلحة في لبنان”.
لا يكتفي التفاهم الذي ادى الى وقف اطلاق النار بما سبق، بل انه اورد تعهدا مزدوجا ومتبادلا من لبنان واسرائيل، بالامتناع عن القيام باي هجوم عسكري ضد الطرف الآخر، وان يمتنع عن التهديد بذلك، مع ذلك يستمر الحاج محمد رعد بالتمسك بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة، فعن اية مقاومة تتحدث اذا كنت قد تعهدت بالامتناع عن القيام باي عملية عسكرية!؟
اما العامل الثاني الذي استجد وادى الى تقديري الخاطئ، فهو اصدار المحكمة الجنائية الدولية لمذكرتي اعتقال دولية لنتياهو وغالانت، وهو ما سمح لفرنسا وحتى اميركا بامتلاك اداة فاعلة وحاسمة لكسر ارادتي نتنياهو وغالانت ومبادلتهما قبول حصانتهما من الاعتقال من قبل فرنسا بقبولهما وقف إطلاق النار في لبنان.
لا يستهدف شرح تفاصيل ومضامين التفاهم الذي ادى لوقف النار وشروطه المجحفة بحق لبنان وما يلحقه من انتقاص للسيادة اللبنانية، ووضع حدوده الجيوسياسية تحت الرقابة والوصاية الأمريكية، بالدعوة لخرق وقف اطلاق النار والعودة للحرب، بل على العكس تماما، فهذه الحرب لم تقدم اية فائدة لغزة، وهي لم تكن ضرورية باي مقياس وطني لبناني، او فلسطيني أوعربي، الحرب كانت فقط تنفيذا لايماءات الخامنئي ورغباته، والعودة لها عبر خرق بنود التفاهم الذي جرى التوصل إليه، سيكون حماقة متجددة تنضم لسلسلة الحماقات القاتلة التي ارتكبتها ايران وحزب الله بحق شعب لبنان عامة، وبحق شيعة لبنان خصوصا…
لا يملك لبنان اليوم ترف المطالبة باعلى درجات سيادته الوطنية، بعد تفكيك دولته وتعطيل مؤسساته الدستورية، وانهيار قطاعاته الاقتصادية ونظامه المالي والمصرفي، لذلك هو مجبر على الاختيار بين سيء واسوء، بين ان يبقى متراس قتال تفتح منه ايران حروبها ضد اسرائيل وبقية دول الاقليم في سورية والعراق والسعودية والبحرين واليمن ودول أخرى في العالم، وبين خيار اقل سوءا يمنح لبنان سلاما قد يسمح باعادة تكوين السلطة وانتظام المؤسسات الدستورية، وقد يؤدي لانعاش قطاعاته الانتاجية وعودة العافية الى اقتصاده ووظيفته في المنطقة، ولو كان هذا الخيار بإشراف دولي وأميركي.
لا يتبدى المشهد اللبناني عن انتصار مزعوم في الحرب التي انزلقنا مكرهين اليها، الا لواهم منفصل عن الواقع، او منافق امتهن بيع الاوهام والخرافات، ويتمتع بوقاحة الكذب جهارا نهارا، تحت قرص الشمس، وتلك ممارسة ممانعتية متواترة، فمقارنة بسيطة بين حال لبنان يوم 7 تشرين الاول سنة 2023 وحاله يوم 27 تشرين الثاني سنة 2024، كافية لتبيان حجم الكارثة التي انتجتها العنتريات الزائفة.
اخيرا ان منظومة الفساد والفشل والارتهان للخارج، بقيادة حزب الله وحمايته، قد وصلت الى اعمق مآزقها، وفشلت على كل مستوى وفي كل قضية، وتسببت في تفكيك دولة لبنان وتعطيل مؤسساته الديموقراطية، وانتهاك دستوره، وإستباحة قضائه، وافقار شعب لبنان وتهجيره وتشريده ودمار عمرانه، فهل من بديل وطني إنقاذي لتغيير عميق وشامل!؟، تغيير يستلهم قيم انتفاضة 17 تشرين 2019 ويستعيد زخمها ويفتح باب الأمل ل لبنان جديد سيد وديموقراطي ومعافى.
نشر في “جنوبية” 2024/12/1