كعكتي المفضلة: حين يكون التحدي في التفاصيل الصغيرة
كعكتي المفضلة: حين يكون التحدي في التفاصيل الصغيرة
أ. وداد عبدالعزيز
هناك أفلام تباغتك بجرأتها، وأخرى تلتف حولك بهدوء، تهمس لك برسائلها حتى تجدها قد تسللت إلى أعماقك. كعكتي المفضلة ينتمي إلى هذا النوع الثاني، ذلك النوع الذي لا يحتاج إلى صراخ كي يُحدث ضجيجًا داخليًا في وجدان المشاهد. فيلمٌ عن المقاومة، لكنه لا يرفع شعارات، ولا يلقي خطبًا نارية. مقاومته تكمن في التفاصيل، في أبسط الأفعال التي قد تبدو عادية في أي مكان آخر، لكنها تتحول هنا إلى تحدٍّ كبير.
يشكل فيلم كعكتي المفضلة للمخرجين مريم مقدم وبهتاش صناعيها نموذجًا متفردًا في السينما الإيرانية، حيث يبتعد عن القوالب التقليدية التي تطغى على الإنتاج السينمائي المحلي، ويقدم تجربة سينمائية تتسم بالهدوء والتفاصيل الدقيقة التي تحمل في طياتها بُعدًا مقاومًا للمألوف. يتناول الفيلم قصة حب متأخرة بين شخصين يعيشان في مجتمع تهيمن عليه القيود الاجتماعية والدينية، مما يجعله مساحة سينمائية للبحث عن الذات وإعادة اكتشاف معاني الحياة والحرية. يتناول هذا المقال الفيلم من منظور نقدي أكاديمي، مع التركيز على أبعاده السردية والبصرية والاجتماعية.
البنية السردية والدرامية
يعتمد الفيلم على سرد بسيط ومترابط، حيث تتطور الأحداث عبر لحظات يومية عادية تتشكل تدريجيًا لتصبح ذات دلالة اجتماعية وعاطفية أعمق. لا يعتمد كعكتي المفضلة على حبكة درامية تقليدية مليئة بالأحداث الصاخبة، بل يختار أن يكون سردًا تأمليًا يعكس الحياة الداخلية للشخصيات عبر مشاهد ذات طابع حميمي.
تقدم الشخصية النسائية الرئيسية، ماهين (ليلي فرهدبور)، نموذجًا للمرأة التي تتحدى الأعراف الاجتماعية السائدة، حيث تبدأ في استكشاف إمكانية الحب والمشاركة العاطفية بعد سنوات من العزلة. في المقابل، يمثل فرامرز (إسماعيل محرابي) الرجل الذي يعاني من حياة فارغة، مما يجعله في بحث دائم عن فرصة ثانية للحب. يخلق التعارف بينهما ديناميكية درامية تقوم على تبادل اللحظات الصغيرة التي تعيد إليهما الإحساس بالحياة.
اللغة السينمائية والتقنيات البصرية
يتبنى الفيلم أسلوبًا بصريًا بسيطًا لكنه بالغ التأثير، حيث تركز الكاميرا على التفاصيل الصغيرة التي تحمل أبعادًا شعورية عميقة. يعتمد المخرجان على الإضاءة الطبيعية وألوان هادئة تعكس الجو النفسي للشخصيات، كما يعزز الإيقاع البطيء للفيلم إحساس المشاهد بأنه يشارك في تجربة تأملية أكثر من مجرد مشاهدة أحداث متسارعة.
توظف الكاميرا اللقطات القريبة والمتوسطة لرصد تعابير الوجه والحركات الدقيقة، مما يسمح بنقل المشاعر دون الحاجة إلى حوار مكثف. كما أن استخدام المساحات الحضرية مثل المطاعم والحدائق والساحات العامة يضفي على الفيلم طابعًا واقعيًا يعكس طبيعة الحياة اليومية في إيران، حيث تصبح هذه الأماكن مساحات للتمرد الصامت ضد القيود الاجتماعية.
الأبعاد الاجتماعية والسياسية
يرتكز الفيلم على تقديم نقد غير مباشر للقيود الاجتماعية التي تفرضها الثقافة الإيرانية على العلاقات الإنسانية، لا سيما فيما يتعلق بحرية المرأة. يعكس اختيار البطلة المسنّة كعنصر محوري في السرد تحديًا مباشرًا لصورة المرأة التقليدية في السينما الإيرانية، حيث تجرؤ على استعادة حقها في الحب والاستمتاع بالحياة رغم النظرة المجتمعية التي تحصر النساء في أدوار محددة.
من خلال مشاهد تجمعات النساء، والمحادثات التي تدور حول الزواج والحياة بعد الترمل، يسائل الفيلم القيم الأخلاقية المتوارثة التي تجبر النساء على العيش وفق نماذج جاهزة سابقة الإعداد. كما أن العلاقة بين ماهين وفرامرز تعكس مقاومة ضمنية ضد مفهوم الحب كشيء مرتبط بالشباب فقط، مما يجعل الفيلم يعيد تعريف معنى العاطفة والرغبة في سياق يحدّ من التعبير العاطفي للبالغين.
الرمزية ودور الشعر في الفيلم
يوظف الفيلم الرمزية بشكل ذكي، حيث تصبح الأفعال اليومية البسيطة مثل وضع أحمر الشفاه أو الخروج لتناول العشاء رموزًا لتحرر الشخصية الرئيسية من قيودها النفسية والاجتماعية. كما يستحضر الفيلم شعر أحمد شاملو ليعطي بعدًا فلسفيًا للنص، خاصة في استخدامه لعبارة “أنا وجعك المشترك، نادي باسمي”، والتي تعكس الألم الجماعي الذي تحمله النساء في مجتمع يكبح حرياتهن.
الخاتمة
يمثل كعكتي المفضلة نموذجًا لسينما المقاومة الهادئة التي لا تلجأ إلى الشعارات الصاخبة أو الخطابات المباشرة، بل تعتمد على التفاصيل اليومية البسيطة لطرح تساؤلات عميقة حول الحرية والحب والكرامة الإنسانية. من خلال أداء تمثيلي متقن وسرد بصري مؤثر، ينجح الفيلم في تقديم تجربة سينمائية تبقى في ذاكرة المشاهد لفترة طويلة، مما يجعله إضافة نوعية للسينما الإيرانية المعاصرة.