مقالات كل العرب

حين فقدت ملاذي!

شارك

حِين فقدتُ ملاذي!

أ. هاني الملاذي

عقودٌ ثلاثة أو أزيد مرّت على بدايات كتابتي للصِحافة، تخلّلها عقدان من العمل الإذاعي والتلفزيوني، بشقائها، صعابها أو نجاحاتها، في مجمل سنين عمري بحلوها ومرّها، أجزمُ أنّي كنت أستمد طوالها -ودون أدنى انقطاع- جرعاتٍ من الطاقة الهائلة، مصدرها الأوحد قامةٌ إنسانية أدبية استثنائية، لم تفارقني، لطالما استمرّت تتابعني، تراقبني، توجهني، جولات دعم لم تنقطع، سواء لاصقتني، أو على بعد، عبر ثلاث مراحل في بضع دول مختلفة قسمت ورسمت مسار حياتي المهنية والاجتماعية.

كبرياء وتواضع

قامة تجلّت بذاك الذي جمع أبهى سمات الأبوّة والرجولة، نضجها وحيائها، هدوئها وألقها، كبريائها وتواضعها.

منه كان غذائي الروحيُّ، كافياً وسخياً على مدار العقود الخمسة، تشجيعٌ ودعم بدأت أتلقّفُه منذ وكلّما تخيّلت عينيه تقرأان ثناءات المدرسة وشهاداتها، ولاحقاً كل مقالاتي، أو تتابعان – بعاطفة الحكيم الخبير- لقاءاتٍ وبرامجَ تلفزيونيةً أقدّمها، بل كنت أكثر من ذلك أستشعر مرافقته لي منذ طفولتي، هديرَ تصفيق يديه المباركتين بُعيد أيّ نجاح، تكريم، أو حتّى ميدالية نشاط رياضي، ليستحضر شريط ذاكرتي تربّعي على بطولة الجمهورية في الشطرنج لفئة الصغار والأشبال خمس سنوات متتالية، والهدوء والتركيز الذين ربّما أورثَ لي من فائض سماته بعضاً منهما!.

رغم فورة الشباب وأحلامهم بالعمل السريع أو المناصب الرفيعة، اضطرني إصراره على متابعتي دراساتي العليا، فأدركت شهادات أكاديمية واحدة تلو الأخرى، لكن لعلّه وحده من كان من حولي يرغب ويحثّني وشقيقي الأوحد، دائماً على المزيد، يا الله … لقد أٌرهِقت يا ملاذي، ماذا عساي أفعل أكثر؟
حين دخلتُ السياسية مندفعاً مشاغباً شغوفاً، لم يعترض، لكنه بغير عادته لم يعلّق، وكأنه استشرف مبكّراً عدم جدواها ذاك الزمن الأغبر، فكان كعادته على حق!

عملت استشارياً في المكتب الخاص لوزير الصناعة بعد أشهر من عملي مع وزير السياحة. حينها، لمست مباركته لوجودي بجوار الخبير الدولي عصام الزعيم كـ “مكان لائق”، وبداية مسار مهني جديد… الحمد لله بتُّ أفهمه أكثر!

كيمياء التواصل

شغف الإعلام تملّكني مجدداً فعُدت إليه بشكل أوضح وأرسخ، من بوابة الإذاعة والتلفزة من ذات الاستديوهات التي أطلّ منها والدي شاباً من ألمع وجوه ومؤسسي التلفزيون الرسمي حين انطلاقاته، فكان لي مصوّباً ومصحّحاً لبقاً لتفصيلات لغوية قلّما وجدت في معاجم العربية تفسيراً لها. مصِراً منذ بداياتي عام 2003 على إحكام سكّة مساري المهني مع الإذاعة الرسمية بالمطلق، كم صعبٌ هذا “المطلق”!

لكن، أنصدّق أن من انطلق مذيعاً على الشاشات مطلع الستينيات ثم محاضراً لعشرات السنين على منابر الثقافة وقاعات الجامعات، هو ذاته نادر الكلام جداً خارجها؟ كم أغبطَ لديّ ولدى الآخرين من حوله سحر تواصله معهم سواء برقي الحديث أو حتّى الصمت!

وذاك السلوك، الذي أَعجَب فيه مقدارَ التسامح والعفو عن كل من أساء له يوماً أو استغل كياسة طيبته. أوَكيف صَفى قلبه النقي دوماً من مجمل شوائبهم؟

أدهشتني أكثر قدرته على استيعاب الجميع من حوله، أغلبهم ليسوا مثله، اختلفوا بآرائهم، بتوجهاتهم، بسلوكياتهم، لكنهم جميعاً بكبارهم وصغارهم …أحبّوه!.

أبجّل فيه منذ وعيت سلوكه في عقده الرابع، كيف أمضى طيلة حياته يفضّلني وشقيقي الأكبر ووالدتي عن نفسه، ولا أبالغ إن أضفت أشقاءه وشقيقاته وأبناءهم وبناتهم، ولا حرج لديه في أن يحرم نفسه من بعض مستلزمات الرفاهية مقدّماً إيانا على ذاته. لماذا يا حبيبي؟ قد كبرنا واستقر وضعنا على أفضل حال، كفاك قلقاً علينا، التفت لنفسك، تمتّع بحياتك ولا تهتم، ما فتئنا نردّد ذلك، لكن …عبثاً أن يقتنع!

رسائل ومقالات وفحوى اتصالات هاتفية تحدثَت عن مناقبه، أجزم بأن الكثير من تفاصيلها وحيثياتها ومضامينها فاجأتنا، أيعقل أن في شخصيته خصالاً إضافية أكثر وأكثر كنّا نجهلها؟

حين رحل ملاذي

البروفسور د.سهيل الملاذي، إن تعب محال أن يشتكي، وإن حزن محال أن يهتز، رجل تفهمه من دون أن ينطق حرفاً واحداً، بطرفة عين، بنبض قلب دافئ، بروح تطرّفت النقاء والإحساس.
هكذا عاش، هكذا أمضى سنينه ورحل.
“رحل”، … كم تكسرني هذه الكلمة، كلّما أبكتني وطأتها!
يا ملهمي، وقدوتي، كيف هكذا فعلت بيَ؟
لِم أخفيت عني نفاد صبرك بانتظار لم شملنا؟
أحتّى في هذه اللحظات الأخيرة وددتَ برهافة إحساسكم تجنيبي قسوة الدمع!
مَن تراني سأكون من دونكم؟…حكماً سأفتقد بوصلتي، شخصيتي، هويتي، بل سأجهل حتى (من أنا) بغيابكم؟
أبي حبيبي ونبض قلبي،… رحيلكم أفقدني ملاذي!

أتراكم قد رضيتم قبلَه عنّي؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى