الاكاديمي اليمني يضمد جراح اغترابه بحوار من القلب، سعيد الجريري: الربيع العربي أسقط أوراقه على المشهد الانساني
سعيد الجريري أديب وناقد ادبي من مواليد حضرموت في اليمن يحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث والنقد من الجامعة المستنصرية في بغداد، أستاذ الأدب والنقد الحديث بكلية الآداب – جامعة حضرموت ، وهو رئيس اتحاد الأدباء والكتاب بالمكلا اضطرته إرهاصات الحرب الشرسة ومحاولة اغتياله إلى ترك بلاده واللجوء إلى هولندا …
ماجدولين الرفاعي
كل العرب : يتميز د.سعيد بنشاطه الثقافي والأدبي، حيث شارك في عدد من الملتقيات والمهرجانات والمؤتمرات الأدبية والثقافية المحلية والعربية وفي هولندا وألمانيا، وله العديد من الدراسات والكتب المطبوعة (شعر البردوني دراسة أسلوبية – أثر السياب في الشعر العربي الحديث – بلا غيبوبة : مقالات في الشأن الثقافي – ديوان ( بخيتة ومبخوت ) قصائد بالعامية الحضرمية – و ديوان ( من يوميات الشنفرى في هولندا).
حاضر الوطن العربي المشتعل سيشغل في المستقبل الأجيال القادمة التي يفرزها هذا الحاضر بكل حروبه وصراعاته التي تندرج في أغلبها تحت مسمى (الحرب من أجل الحرية) ترى هل بإمكان المثقف و الكاتب التأثير في الواقع المعيش بما يساهم في تغييره؟
• الحرية هي شيفرة الدخول إلى المستقبل، ولقد ظلت فكرة مؤجلة متراكماً فوقها زمن تفرّد به المستبدون بأقنعة وشعارات عديدة، منذ أن تم إجهاض الثورات العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، وهيمنة من لا يفهمون من الثورات سوى تولّي السلطة، فأحالوا الواقع العربي إلى متوالية صراع على السلطة وإقصاء الآخر المختلف؛ لذلك رأينا كيف كانت ثقافية الثورات العربية تتوارى لتخلي المجال لتحزيب أوعسكرة الأنظمة التي عملت على وأد فكرة المواطنة والعدالة الاجتماعية والتداول السلمي للسلطة، في واحدة من حالات الاستلاب التي ظلت تحمل في داخلها مفاعيل التفجر في أي لحظة، حتى انطلقت صيحة الحرية متأخرةً في الشارع العربي. كل هذا ولم يكن المثقف والكاتب بمعزل عما حدث ويحدث، فمن أوقد شمعة الوعي والتنوير والحلم بالتغيير بمعناه الأوسع هم المثقفون والكتاب، بصرف النظر عن مثقفي السلطة وكتابها الذين هم أصداء لوقع أحذية الطغاة في كل زمان ومكان.
كل العرب : منذ نعومة أظفارنا ونحن نسمع باليمن السعيد، ترى هل مازال اليمن على سعادته بعد سنوات الحرب التي دمرته واستنزفت خيراته ومقدراته. كيف يرى الكاتب والشاعر سعيد الجريري مستقبل بلاده؟
• لم يكن سعيداً قبل الحرب إلا في المخيلة العاطفية العربية التي تعيش على المجاز والاستعارة. أما بعد الحرب فهو ذاهب إلى مجهول قد يطول أمده. لكني أرى أن ما حدث ومنه هذه الحرب الكارثية المدمرة إنما كان سيحدث يوماً ما، فسياسة الخراب التي مورست بعبثية سوريالية كانت مؤدية بلا شك إلى لحظة كهذه، لعل تحولاً جديداً يتشكل على نحو مختلف ومغاير، لا يكرر خطايا الماضي. وأتصور أن المستقبل ليس أسوأ مما مضى، بعد أن اهتزت كل المسلّمات واليقينيات السياسية والاجتماعية والثقافية والتاريخية، لكن الواقع العربي لا يمكن تجزئته قُطرياً، فهو متداخل ومحكوم بسياسات إعادة ترتيب الخارطة السياسية الجديدة.
كل العرب : ماذا تعني الهجرة القسرية من الوطن ومن ثم اللجوء إلى أوروبا لسعيد الجريري الناقد والشاعر والأكاديمي؟
• لقد كنت ممن لا يفكرون حتى في الهجرة الداخلية (عربياً)، ثم وجدت نفسي فجأة بلا خيارات متاحة، لأغادر قسراً بعد انسداد الأفق أمامي من كل جانب. الوطن هو ذاتنا، وجودنا، كينونتنا، فكيف يغادر أحد ذاته، ووجوده، وكينونته؟ سؤال أحاول مخاتلته نفسياً بلا جدوى. لذلك أحاول تخفيف وجعه بالكتابة، فهي بعضٌ من تلك الذات والوجود والكينونة.
كل العرب : تحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث والنقد. كيف تتعامل أوروبا بشكل عام وهولندا بشكل خاص مع العرب من أصحاب الشهادات العليا الذين أمضوا أعمارهم في البحث والدراسة؟
• أن تغادر وطنك قسرياً بعد نصف قرنٍ كما هو حالي، فأنت كسيزيف الذي ينوء بصخرته، لكن في المنفى. هنا تكتشف فجأة أنك بلا إرشيف، فما كنته في بلدك لا امتداد له، فأنت كالشجرة التي يعاد استزراعها في أرض غريبة ومناخ غريب وهواء غريب. أما عن كيفية التعامل مع ذوي الشهادات العليا هنا، فثمة حالة اكتئاب تصيب كثيرين من ذوي الخبرة، لأن المجال مفتوح واسعاً للشباب، لتطوير قدراتهم، على عكس الكهول أو المتقدمين في الكهولة، لكن مؤخراً وضعت المنظمة الهولندية للبحوث العلمية (NWO) مشروع إدماج الباحثين من ذوي المؤهلات العليا في المؤسسات والمنظمات العلمية والبحثية، وتمت دعوتهم للقاء مثمر في جامعة أوتريخت بحضور وزيرة التعليم والثقافة والعلوم، ومن مخرجاته عمل تشبيك مع مجموعات بحثية، حالياً أشتغل مع إحداها على إنجاز مشروع مشترك. إنما بشكل عام فالوضع ليس مثالياً، ومحكوم بعوامل منها ما هو موضوعي ومنها ما هو ذاتي أيضاً، ولكن لعلي أنظر هنا إلى الجزء الممتلئ من الكأس.
كل العرب : لك كتابات ومؤلفات نقدية عدة فكيف تقيم حركة الشعر العربي في الوقت الراهن، وهل مازال الشعر ديوان العرب؟
• الشعر بما هو فن لا يمكن عزله عن سياق اللحظة الراهنة التي يمر بها العالم العربي، وفي تصوري أن الخط البياني لتطوره في صعود، غير أن هناك حالة من التخلف في وعي التلقي، فالقصيدة مثلاً تطورت مفهوماً وبناءً ولغةً لكن الوعي بالشعر لدى المتلقي العربي لم يتطور، بمفاعيل ما مارسته الأنظمة العربية من تخليف ممنهج للإنسان العربي، لإدراكها أن القصيدة ليست كلمات وإنما لها – كما لأشكال الفن الأخرى – تجليات فكرية في العمق تشتغل بفاعليات فنية وجمالية متسقة ثقافياً في أعماق الذات. لكن الشعر لم يعد ديوان العرب، فهم كما قال أحد النقاد من أكثر الأمم جهلاً بالشعر، وإن يكن له ضجيج مازال يُسمع في كل اتجاه.
كل العرب : كتبت الشعر باللهجة المحكية وبالعربية الفصحى فأين تجد نفسك على راحتك أكثر؟
• الشعر هو الشعر بالمحكية كان أم بالعربية الفصيحة، فهما لغتان لكل منهما نظامها وبنيتها الثقافية وشعريتها أيضاً، فثمة تجربة لا متسع للتعبير عنها جمالياً إلا بالمحكية، فتنثال حينئذ بالمحكية في أعلى درجات جمالياتها، تماماً مثلما أن هناك تجربة أخرى لا مجال للتعبير عنها جمالياً إلا بالعربية الفصيحة، فأجدني ألهج بها منسجماً مع إيقاعاتها الثقافية. غير أنني حاولت في المحكية الحضرمية أن أجرّب تقنيات القصيدة الحديثة حتى وصف أحد النقاد الأكاديميين ديواني بأنه نموذج لحداثة القصيدة العامية.
كل العرب : انتشرت المنابر والمنتديات الثقافية العربية في أوروبا بعد حركة اللجوء التي شهدتها القارة العجوز مؤخراً، فهل استطاعت تلك المنابر استقطاب المثقف الأوروبي وبالتالي إيصال الثقافة العربية إليه؟
• أتصور أن المثقف العربي حاول وما زال يحاول أن يفتح نوافذ الثقافة العربية على كل اتجاه، وهي محاولات ستؤدي ذات يوم إلى تجسير العلاقة بين الأنا والآخر لتكوين وعي إيجابي على اعتبار أن الآخر هو أنت في الواقع، وليس الاختلاف والتنوع والتعدد سوى أحد تجليات ذلك الوعي. ولعل ما يحدث في العالم العربي قد فتح فضاء الأسئلة، وهو ما ينبغي للمنابر والمنتديات الثقافية العربية أن تشتغل عليه، وألا تكتفي بأن تكون منابر ومنتديات عربية في الخارج، تخاطب ذاتها بخطاب ذاتها.
كل العرب : ما تأثير ثورات الربيع العربي والحروب في ضرب العملية النقدية والإبداعية العربية بخاصة أن الكثير من الثورات انتكست ومعها انتكس المشهد الأدبي والنقدي رغم ظهور نتاج إبداعي حر، خرج من قوقعة الرقابة الحكومية ذات الطابع المنعي الاستبدادي؟
• يبدو لي أن حالة إبداعية تتشكل في العالم العربي، رغم الخراب العظيم، ستفضي إلى تحول مختلف نوعاً عما سبقه، وإن تكن الثورات العربية قد تم احتواؤها أو تشظيتها، بمحاولات إعادة إنتاج الأنظمة نفسها، فإن فاعليتها الفكرية والثقافية تتجه لطيّ إرشيف القهريات، خاصة في زمن الفضاء المفتوح والافتراضي الذي لم تعد الأنظمة الاستبدادية فيه قادرة على مواكبة تقنياته ومفاعيله التي تعيد تشكيل مفهوم الحريات وتجعل في المتناول ما لم يكن متاحاً في الماضي.
كل العرب : ما رأيك بالمشهد النقدي العربي الراهن بخاصة بعد الربيع العربي الذي أفسح المجال اكثر للنقد الصحفي وانتشار المحسوبية الصحفية والشللية والفئوية مع تعدد مشارب وتوجهات المنابر الثقافية؟
• الربيع العربي الذي بات خريفاً تساقطت أوراقه على المشهد الإنساني العربي كله وليس النقدي استثناءً منه، لكني في عتمة المشهد مازلت أرى أضواءً هنا وهناك، فهناك تراكم نقدي مواكب، لا تقلل من أهميته أعراض المحسوبية والشللية والفئوية، فالذوات العربية عموماً تعاني انشطاراً وتمزقاً عاماً، ومن الطبيعي أن تشوب المشهد شوائب معينة، لكن بالمجمل هناك نقاد جادون يشتغلون على تطوير أدواتهم ويستجلون في النصوص أعماقها بعيداً عن تشوهات اللحظة الراهنة.
كل العرب : ماهي نصيحتك للشباب العربي الذين ألقت بهم الظروف السياسية على شواطيء التشرد واللجوء؟
• لعلي أكون متفائلاً بأن كثيراً من الشبان العرب والشابات ممن يقيمون في بلدان اللجوء ولاسيما الأوروبية سيكونون يوماً رافداً من روافد التنمية الفكرية والثقافية العربية، إن هم أحسنوا الاستفادة من الفرص المتاحة لهم، وهي كثيرة جداً، وينبغي لهم النظر باتجاه المستقبل، فالكوارث الكبرى تعقبها تحولات كبرى أيضاً، والمستقبل لا صانع له سوى الشباب.
كل العرب : أخيراً، ماهو السؤال الذي توقعت أن أوجهه لك ولم أفعل؟
• توقعت أن تسأليني عن موقفي السياسي من الحرب وأطرافها، ولماذا لا يلوح أفق للحل السياسي. ولو فعلتِ لأجبتك بأن سياسة الدوران حول الموضوع جزء من تأويل ما نراه من خرافية في كل ما يحدث هناك، لكن التفاصيل لا يتسع لها الحوار في حيز صحفي كهذا. وختاماً دعيني أشكرك جزيلاً وأشكر مجلة (كل العرب) التي أتمنى أن تكون فضاءً حراً لكل العرب، اسماً على مسمى.