الرئيسيةكل الثقافة
“حوض الملوخية” لمحمد سليمان الفكي
حوض الملوخية
قصة قصيرة لمحمد سليمان الفكي الشاذلي
زمن الخريف في أمدرمان حي المهدية. منتصف يوليو وكان الوقت عصرا. الغيوم تتكاثف كأنها رؤوس جبال محطمة. الحر قائظ فهي لا تمطر هنا الا في الصيف. وتعالى صوت طرقات عالية مزعجة يعوزها الذوق على باب الزنك في المنزل رقم مئتين وتسعة وعشرين. أنزلت عائشة السقاطة الصدئة وفتحت الباب لترى سمكريا طول بعرض يرتدي أبرولا ظهري اللون ويعتمر طاقية خضراء تشبه تلك التي يضعها حيران الشيخ دفع الله صايم ديمة على رؤوسهم. عين السمكري اليمنى بدت أصغر بكثير من عينه اليسرى وإن كانت كاملة. كان بارز الأسنان جدا فاستغربت لمرآه وطالعته بنظرة متسائلة:
وإذا به هو الذي يسأل:
– بيت السر الشايقي الموظف بديوان الخدمة؟
وجاء السر على صوت الرجل متمهل المشية في عراقيه الساكوبيس الأبيض الفضفاض وسرواله الدبلان ذي التكة الحمراء، وعلى رأسه تحدّرت طاقية بيضاء مخرَّمة. نظر إلى السمكري باستطلاع كما فعلت زوجته عائشة من قبله ثم سأله عمَّا يريد.
فقال الرجل:
– معليش للإزعاج. أنا مرسل من طرف الأسطى الكيك الأحمر صاحب الورشة بأمبدة شمال.
غمغم السر الشايقي:
– أهلا وسهلا. تفضل.
فرد الغريب بتمتمة:
– لا والله مستعجل بسْ هو بيقول ليك الحبوبة الروضة خالتكم عيانة خالص ولا بد من شوفتها.
ارتبك السر وسأل باهتمام شديد:
– أيه حصل ليها؟
ارتبك الغريب:
– زي ما قلت ليك.
وصمت ثم أردف
– أنا مرسال وما عارف الحصل بالضبط.
فهتف السر:
– طيب أدخل!
– ألف شكر.
– والله تشرب ليك كباية موية ولا شاي، ما بيجوز!
– لا والله عندي لديتر كومر منزّل ولا بد من سمكرته حالا.
أستدار السمكري بأبروله الظهري اللون وأغلق السر الشايقي باب الزنك وهو يقول بفتور لزوجته عائشة:
– خلي أم الخير تجهز حالها.
فسألته بلهفة:
– خير إن شاء الله؟
– لا والله.
– في شنو؟
– قولي ليها حبوبتك الروضة عيانة خالص.
وفي تلك اللحظة مرقت من الراكوبة القصية أم الخير إذ كانت تنصت لصوت أخيها الجهوري.
همس لها
– جهزي حالك عشان نمشي لبيت خالتك الروضة في أمبدة شمال.
صمت ثم أردف بنبرة محايدة:
– الظاهر إنها حا تودع.
والسر الشايقي الموظف بديوان الخدمة العامة اسكيل أتش يقيم بشارع البط بالحارة الثانية بالمهدية قريبا من محطة الكوبري وجامع الختمية هو وعائشة وام الخير والذرية التي وصلت إلى سبعة. هو في حوالى الثالثة والخمسين وأخته أم الخير تصغره بعامين وهي عانس راضية بعذريتها الخالدة. وكان والد السر يقيم في الأصل في الحارة الرابعة أمبدة التي انتقل إليها من جزيرة أوسلي بالشمالية ولكنه انتقل إلى مدينة المهدية منذ أن كان السر صبيا في التاسعة من عمره. في البداية كانت الزيارات منتظمة بين أمبدة والمهدية ثم ما لبثت أن فترت شيئا فشيئا فيما عدا زيارات الحبوبة الروضه لهم من حين إلى حين محملة بقصب السكر والتمر للأولاد وحبات البصل لعائشة. ظلت لسنوات تدير تجارة صغيرة في التمر والبصل وفرت لها مع الحقب أرباحا لا بأس بها. كانت على أعتاب التسعين إلا أنها كانت تتمتع وتشتهر بنشاط وحيوية منقطعتي النظير، هذا إضافة إلى عزيمة قوية قلما وجدت في أعتى الرجال.
كانت تردد دوما:
– ما كلفت زول جنس مليم ولمن أموت أموت واقفة.
كانت نحيلة دقيقة العظم عيناها صغيرتان تشعان بإرادة غاضبة. وشلوخ قبيلتها الشايقية ترصع خدها الأيمن وخدها الأيسر: ثلاثة على الخد الأيمن، ثلاثة على الخد الأيسر، كما كانت شفتها السفلى مدقوقة بالإبرة والكحل الأخضر ما جعلها تلمع بدكنة ما بين الخضرة والسواد. كانت تسف التمباك وكان لها ولد واحد اسمه محمد الشايقي قضى ليس بتأثر كبده من الإفراط في شرب عرقي التمر ولكن بضربة سددها له نديمه ود السكات ذات عشية صيف بعيد. ومنذ موته وهي تعيش وحيدة في بيتها الذي يحتل ألفي متر مربع بالتمام والكمال من ارض أمبدة ويقع على ناصيتين.
بحنكتها قسمت الحبوبة الروضة الألفي متر إلى ثمانية مساكن كل منها يتكون من حجرة وبرندة وراكوبة وأدبخانة بلدية وحمام وحوش. البناء كله من الجالوص والباب الرئيسي واحد من خشب السنط الأغبر الغليظ. كانت كل ما توفر لها شيئ من تجارة البصل والتمر تطلب من عبد الوهاب أبو دقن صاحب اللوري القلاب ان يأتي بالتراب ومن الحدوري البناء أن يشرع في حفر الأساسات ووضع البناء طوفا بعد طوف. حسابها على البناء بالذراع ولا تقبل إلا أن تقوم بعملية قياس الجدران بنفسها ذراعا بعد ذراع. أما ترميل الجدران وتجييرها فكانت من الأعمال التي تعهد بها إلى عبد المنعم البربراوي والذي دوما ما كانت تقول له:
– انت سعرك غالي. أنا عايزة جير مش عايزة بوهية دوكو!
فيسالها:
– طيب والأبواب وشابيك الخشب العملها خلف الله النجار؟
فتنفجر فيه غاضبة:
– قطيعة فيك وفي خلف الله النجار وفي شغلكم.
وتبصق ثم تستأنف:
– أديهم برضو جير.
فيعيد لها كدأبه كل مرة:
– لكن ما بينفع!
تكور شفيها المخددتين وتزوم:
– ما يخصك. انت قايل عندي الآلاف ولا شنو؟ جير ولازم يكون أخضر.
هي تحب اللون الأخضر وكل شيء عندها اما أخضر أو يميل إلى الأخضر. وفي المئتي متر التي خصصتها لنفسها كانت تزرع الملوخية والسبروق والبامية والطماطم والعجور والرجلة والفول النابت وغير ذلك، كما كانت تنصب قفصا كبيرا للدجاج البلدي. وفي رأس حجرتها كانت تربي أجوازا وأجوازا من الحمام داخل صناديق من الصفيح. تطلع بسلم خشبي يشبه السلم الذي يرتقيه الجعلي مؤذن جامع البرابرة غير البعيد. جملة ايجارتها الشهرية في حدود السبعمائة جنيها تأخذها مقدما أول كل شهر وتحفر لها في حوض الملوخية ثم تدفنها بعد أن تلفها بأكياس النايلون. لم تكن بالبيت كهرباء وفواتير الماء التي تنتظم في دفعها في اليوم والتاريخ تحتفظ بها شهرا بعد شهر وعاما بعد عام حتى ملأ سحارة بكاملها. وذات فبراير وصلتها فاتورة مذدوجة تفيد بأنها لم تسدد دفعية يناير مع فاتورة أخرى سميت فروق ومتأخرات ترجع لأشهر وأشهر، مما يجعل المبلغ الكلي المستحق الدفع مشتملا على بند سمى ببند المتأخرات. في ذلك الصباح الشتوي انفعلت في عامل شركة المياه الذي سلمها الفاتورة.
صرخت في وجهه:
– سجم خشمك وسجم خشم الحكومة الماعارفة حساباتها.
بصقت ثم أردفت:
– يخصي عليلكم.
لملمت طشاتة البصل والتمر وأغلقت دكانتها الصغيرة واستأجرت تاكسي هلمان في واحدة من مراتها المعدودات لتأخذها هي وسحارة الفواتير إلى إدارة شركة المياه في بداية شارع الأربعين قريبا من صينية المجلس البلدي لأمدرمان. هي والسائق حملا السحارة بفواتيرها المدفوعة والمختومة ووضعاها أمام ترابيزة المحاسب.
وقف المحاسب مفزوعا:
– أيه ده يا حاجة؟
كورت شفتيها المخددتين وزامت:
– ده سجم خشمك.
وسألت في لهجة مستنكرة:
– عشان شنو جايبين لي فاتورة فيها متأخرات؟
– خليني أشوف.
– انت كان عندك نظر كنت رسلت لي فاتورتين؟ واحدة قال أيه قال متأخرات! متين أنا فطيت شهر من يوم الموية دخلت بطن بيتي؟
فتحت السحارة وفردت الفواتير بكعوبها المختومة.
صاح المحاسب:
– يا حاجة دي عايزة ليها فريق مراجعة مش موظف واحد!
وعلا الضجيج فخرج المدير من حجرته ذات الباب الخشبي المتهالك.
أزاح نظارة القراءة عن عينيه ووضع نظارة قصر النظر وسأل في استياء:
– أيه الجوطة؟ في أيه يا أستاذ محجوب؟
وأطلعه محجوب المحاسب على الأمر فنظر إلى الحبوبة الروضة وقال لها:
– خلاص … خلاص ياحاجة لمي ورقك وأدفعي حق الشهر بتاع فبراير بسْ …
وسكت ثم أردف:
– والله نحن ما عندنا في سجلاتنا قدر فواتيرك دي!
وحدج شلوخها الست ثلاثة على كل خد ثم سأل:
– دي من سنة كم؟
بصقت بقرف وزامت:
– من سنة حفروا البحر.
وللحبوبة الروضة دكانة صغيرة في سوق أمدرمان استأجرها منها تاجر تشاشة. وذات عام طلبت منه زيادة الايجار الشهري فرفض وعند ترددها الملح عليه حلف بالطلاق وكان مسطولا أن لا يدفع لها ولاقرش حتى من الإيجار القديم فما كان منها إلا أن ذهبت إلى محكمة أمدرمان الجزئية وكتبت ارضحالا من ود عووضة تطالب فيه بالإخلاء لعدم السداد. في صبيحة الجلسة دخلت هي ومستأجرها التشاش قاعة المحكمة فتصادف أن كان القاضي سيدة. لم يكن هناك محامون ولم يكن هناك كلام كثير. القاضية حكمت بالإخلاء الفوري وتسليم الدكانة للحبوبة. لشدة سرورها ما ملكت الحبوبة إلا أن انحنت ورفعت محفظتها الجلدية الحمراء المتدلية من رقبتها واستلت منها ورقة بنفسجية من ذات العشرة جنيهات ثم صعدت المنصة وهي تخاطب القاضية:
– الله ينصر دينك يا بنيتي.
وابتسمت ثم أردفت
– خذي الملاليم ديل ساعدي بيهم حالك.
إنزعجت القاضية وردت بحزم:
– والله لو ما كنت مَرَة كبيرة كنت أمرت بحبسك!
فصاحت فيها :
– تحبيسيني في شنو؟ عشان أديتك هدية؟
تأملتها القاضية ولزمت الصمت لكن الحبوبة الروضة لم تصمت:
– والله غلطانة الحكومة السوت النسوان قضوة في المحاكم!
ثم ما لبثت أن خرجت غاضبة ناسية أن الحكم كان في صالحها.
واضطربت في ذهن السر الشايقي وفي صدره أشجان وذكريات عمقها حنين طفولة ساحقة، لكن ما ستخلفه الحبوبة الروضة بدا للحظة أهم من كل شيء. الجميع يعرف بيتها ذا الألفي متر، يعرف نخلاتها في البلد، يعرف تجارتها الصغيرة في البصل والتمر. وقال في نفسه: ” والإيجارات…! الإيجارات الشهرية التي ستكون صمام أمان محترم …” وفكر في إيجار المئتين وخمسن مترا التي تشغلها الآن فهو لن يترك بيت أبيه في المهدية ليرحل إلى أمبدة، وأم الخير أخته كذلك لن تفعل. وابتسم في غموض قائلا لنفسه إنه سيكون من أصحاب الأملاك أخيرا وهو الذي لم يمتلك في حياته إلا مرتبه الشهري. ولوهلة أنب نفسه يخاطبها: “أتسمى ذلك امتلاك؟ إنه أكثر تفلتا وتسربا من الماء نفسه!” وأراح نفسه بهمسه لها أنه سيكون من أخيرا من ذوي الدخل المضمون. تجارة التمر والبصل فلتذهب إلى الشيطان، وعبس إذ بدا له أن عزرائيل نفسه قد يموت والحبوبة الروضة ربما لا تموت. الكل يؤكد أنه تخطت التسعين بعام أو عامين لكنه وفي قرارة نفسه كان موقنا بأنها قد تخطت المائة منذ زمان. بدت خالدة فلم تخرّف ولم تكف عن الحركة والنشاط المثابر.
وأيقظه صوت أخته أم الخير:
– أنا جاهزة.
وأطلقت تنهيدة طويلة:
– والله مشوار يقطع النفس.
وبدا الامتعاض على وجهها الشاحب المفتقر أبدا إلى السوائل المرطبة.
همست في غموض:
– الله يستر.
وقال السر:
– الله يستر علينا ويرحمنا من رحمته الواسعة.
وصمت ثم أردف:
– يا رب.
واستقلا البص الفيات إلى سوق أمدرمان ومن هناك أخذا أوستن أبيض ضميرك إلى شارع الجميعاب في أمبدة شمال. نزلا عند محطة الفرن الذهبي للخبز البلدي. ولما مضيا يشقان سبيلهما في شارع الجميعاب طالعتهما بيوت الجالوص بجدران تساقط عنها روث البهائم المخلوط بتراب الرقيطة. كانت ثمة جماعات من المارة وكاروهات صغيرة تجرها الحمير وأخرى كبيرة تجرها خيول عليلة . في صمت ذكرا معا سنوات طفولتهما وأيام الصبا الباكر. وتذكر السر المرة الأولى التي لعب فيها البلي في الزقاق الشمالي والكرة الشراب في ميدان النسر الذي تحول الآن إلى مدرسة متوسطة. وتذكرت أم الخير لعبة عريس وعروس على نحو غامض. كل الموجودات بدت حية وقريبة من القلب.
ووصلا البيت فوجدا باب السنط الهائل مشرعا كدأبه لأن سكان الوحدات الثمان لا ينقطعون في أي لحظة عن ممارسة الدخول والخروج. عشرات الأطفال والقطط والكلاب قامت أو رقدت في هذا الركن أو ذاك. وتناثرت في الحوش الداخلي طشاتة وجرادل وبنابر منسوجة بالحبل وأخرى منسوجة بالبلاستيك، وتناثرت مناضد وطبليات خشبية مكسرة. وضربا غربا في الزقاق الداخلي للبيت حتى بلغا نهايته فانحرفا يمينا حيث بدت أحواض الملوخية والبامية والطماطم والرجلة والعجور والفجل والبصل الأخضر فالحبوبة الروضة كانت تحقق اكتفاءا خضريا بنسبة مائة في المائة. كانت تبتاع فقط كيلو لحم واحد في الأسبوع مع القليل جدا من الملح والسكر والشاي وزيت السمسم وزيت الفهد. المستأجرون منها كانوا يصفونها بالبخل والتقتير والغلظة وهي كانت تؤمن يقينا بأنها إنما هي إمرأة مدبرة وحازمة.
ورأى السر كوما من الزجات الفارغة الشفافة البيضاء والملونة مكومة في أحد الأركان قريبا من الحنفية واحد بوصة فعرف أنها تخص المرحوم محمد الشايقي ولدها الوحيد الذي قضى منذ حقب وحقب. إنها لا ترمي شيئا أبدا ولا تستغني عن شيء! حتى زجاجات العرقي العتيدة بقيت تحت وهج الشمس وبرودة الظل وعمي الظلام. بقيت طيلة الفصول وطيلة الحقب حتى بدا وكأنها ستبقى للأبد. وكان حبل الغسيل المضفور من الزعف البني الغامق مرخيا وعليه فردة قديمة وملابس داخلية باهتة. سارا تسع خطوات ثم دلفا إلى البرندة المرملة دونما جير فرأيا الزير الفخاري يتكئ على حمالته الحديد وينقط برتابة وانتظام على طاسة صدئة، كانت رقبته مغطاة بشاش أبيض رهيف التم فرفع حتى غطى فتحته التي وضعت فوقها صينية ألمنيوم من فوقها كوز من الألمنيوم أيضا.
من البرندا دلفا إلى داخل الحجرة الوحيدة التي بنى العنكبوت على أركانها وفي سقفها المنسوج من القنا والتمام وجذوع النخل. لون الحجرة الأخضر كان باهتا جدا لكن أرضيتها الرملية بدت نظيفة.
وهتفت أم الخير بحنق:
– ولا واحدة من المستأجرات ولا الجارات تجئ وتقعد مع خالتي!
فهمس السر مغمغما:
– انت عارفة حبوبه الروضة وطبعها.
ووقفا قريبا من العنقريب العالي والضخم جدا والذي ضم جسدها الدقيق. كان شعرها الأشيب مكشوفا، وجبينها المخدد بعشرات التجاعيد والخطوط ينضح بالعرق. عيناها كانتا مطفأتين فأجفانها مسدلة. أنفها الديق المستقيم بدا وكأنه يصدر صريرا رقيقا وخافتا. وفي تلك اللحظة تكاثفت ظلمة الغيوم وانفلق دوي رعد شديد يهز بقية العصر الذي تقدم. شعر السر بقشعريرة تتسرب إلى قلبه. تحركت الحبوبة الروضة قليلا في رقدتها ثم فتحت عينيها وبدا كأنها تحاول أن تقول شيئا فانحنت أم الخير عليها واضعة أذنها اليسرى قريبا من الشفتين المدقوقتين بالكحل، وسمعتها تقول بنبرة خافتة لكن حازمة:
– الكفن في السحارة الكبيرة…
وصمتت ثم أردفت بنبرة مرهقة للغاية:
– موية البرود مخلوطة بموية زمزم الجبتها من الحجاز برضها جوة السحارة والدفن في البلد مو هنا.
وهمست بتضرع:
أدفنوني تحت النخلات.
وصمتت.
أمعن العصر في التقدم وانهمر المطر مشوشا كالأفكار. اضطربت السماء ثم اصطخبت بدوي الرعود كرة أخرى. واشتد الإحساس بالقلق فجلسا على العنقريب عند قدميها المختبئتين تحت توب البنغالي الخفيف. وانتبها لقط يجوس في النملية بين صحون الطلس والباشري والكزرونات القديمة. كانت هناك زجاجة سمن لا بد أنها جلبت من البلد، وكيس مفتوح تدفق منه الجُرُمْ. وكان هناك الزيت وكيس الملح وكيس السكر وعلبة الشاي. وتحت النملية كانت هناك طبلية خضراء عليها بابور جاز أبو إبرة، وقرب الطبلية جثم بنبر كبير منسوج بحبل مهترئ.
ارتعشت شفتا الحبوبة المدقوقتان بالكحل الأخضر رعشات خفيفة ثم نبض ذقنها على نحو غير إرادي وتلاحقت أنفاسها ثم ما لبثت أن تباطأت. انتفخ وريد رقبتها ثم انحرف على نحو يثير الجزع. وامتلأ قلباهما باضطراب مفعم بالخيالات. ساد الصمت وبدت الحجرة أضيق مما هي عليه. وحركت ريح المطر حبل الفانوس غير الموقد والمعلق على حلق الباب. وتطلعا معا إلى حجر البركة المجلوب من ضريح سيدي الحسن في كسلا. وارتفعت في الجو رائحة الأرض المشققة الظمأى وهي تستقبل أولى زخات المطر الذي أخذ ينهمر بغلظة. ومن حجرات المسـتاجرين فاحت روائح المطبوخ والمفروك ممتزجة مع رائحة العرق والبول وصنان الأطفال.
وتخللت المطرة عاصفة مباغتة صفعت الحجرة الخائفة من كل جانب. واشتد ظلام الغيم متداخلا مع ظلام أول العشي. برقت عشرات البروق، وبدأ أن صاعقة قد وقعت في القريب، ودبت الرطوبة في الأطراف. تحركت شفتا الحبوبة المدقوقتان كرة أخرى فدنت منها أم الخير ووضعت عليهما أذنها اليسرى. حاولت أن تتكلم لكن الإعياء أخذ منها جدا. الحروف خرجت متقطعة غير واضحة تصحبها حشرجة مزعجة، لم تفهم منها سوى كلمتي: “حوض الملوخية … حوض الملوخية …”. وفي سرعة وجلبة دخل إلى البرندة ومنها إلى الحجرة الأسطى الكيك الأحمر ومعه محمود المساعد الطبي في الشفخانة القريبة.
قال الأسطى بصوت بدا غاضبا:
– مطر غير مسبوق! السيول في لحظات أخذت في جرف الشوارع!
واتجه محمود إلى العنقريب فوضع عليه صندوقه المعدني اللامع وأخذ رسغ الحبوبة. صرّ وجهه بعد برهة ثم مد يده اليمنى ففتح جفنيها وأغلقهما. أخرج سماعته الطبية العتيقة، علقها على أذنيه ثم وضع ميكرفونها على صدر الحبوبة. أصغي باهتمام وهو يحرك السماعة كأنه يبحث عن القلب العجوز. والتفت على نحو درامي وهو يقول بحياد:
– البركة فيكم. ماتت للتو الله يرحمها كانت إمرأة مكافحة.
دوّت رعدة جفل منها الجميع، وبدا أن جدران الحجرة قد أخذت في الإهتزاز. ثم سمعوا جدران بيوت المستأجرين تتقوض وتتهاوى والمطر يشتد ويشتد. ودون أن يشعر السر الشايقي زفر:
– يعني ما حا يكون في ايجارات؟ نسأل الله ألا تقع كل بيوت الايجار.
التفت إليه الأسطى الكيك قائلا:
– البيوت أصلها جالوص يا حاج السر فلا تنسى ذلك.
قطب السر وهمس لنفسه:
– لا دخل ثابت مع هذا المطر.
وسأل الأسطى الكيك الأحمر:
– والقروش النقد عندك فكرة عن محلها؟
تمتم السر الشايقي:
– لا والله.
وقالت أم الخير:
– ما في جنس مخلوق يعرف عنها حاجة.
تأوه السر ثم تنهد:
– اللهم لا اعتراض على حكمك.
وهنا قال المساعد الطبي محمود:
– مش الأولى تستروا الجنازة وبعدين…
فقاطعه السر:
– بعدين ممكن نبيع البيت على الأقل.
وصمت وأردف:
– أصلهم ألفين متر مهما كان.
وهمست أم الخير:
– الحبوبة قالت يدفنوها في البلد تحت النخل.. والله مشوار ومحتاجين لوري..
وصاح السر بغتة:
– وما ننسى تمر البلد ونخله.
وصمت ثم زام بصوت خافت:
– لكن لو يقف المطر .