آخر مقال للراحل عبد الحميد الهمشري
نجاحات صهيونية متسارعة تهدد الوجود العربي
أ.عبدالحميد الهمشري
أعداء الأمة يخططون، ويضعون النقاط على الحروف، وينفذون كل ما يمكن أن يكون عاملاً في انهيار النظام العربي من محيطه إلى خليجه، ونحن في غياهب النسيان أو الجهل ماضون، فعدونا الصهيوني نجح في عام 1948 بإقامة دولته، على غالبية الأرض الفلسطينية، وما طفق يخطط للاستيلاء عليها، وعلى أراضٍ عربية غيرها، فتحمل الشعب العربي وزر اعتداءات الجيش الصهيوني الباغي في عام 1956 و1967، وما زال يسرح ويمرح، كما يحلو له، فتفرعنت تلك الدولة الباغية لأنها لم تجد عربياً يردعها، وكل مَن فكر، أو حاول ذلك تقصقصت أجنحته وانتهى. فقادة الصهاينة ظلوا على عهدهم مع مقررات مؤتمراتهم المتواترة، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ولم يتراجعوا قيد أنملة عن كل ما خططوا له ورسموه، ففي العام 1965 أعلن ليفي أشكول – رئيس الوزراء الصهيوني ـ الذي رتّب لعدوان 1967 على مصر وسوريا والأردن، ابتدأها بتسخين الأجواء على الحدود السورية والأردنية بإعتداءات يشنها جيشه الباغي، واستفزازاً لكل العرب والمسلمين، أعلن أن القدس هي العاصمة الأبدية للكيان الصهيوني، وجميع من تولَّوا من بعده رئاسة الحكومة الاحتلالية الصهيونية ساروا على نهجه، ويصرون على ذلك، ضاربين عرض الحائط كل قرار دولي يناقض مسعاهم هذا، وهم ينفذون على أرض الواقع كل أطماعهم في المدينة المقدسة وباقي الأرض الفلسطينية، وقد حقق الصهاينة في كل ما يقومون به لتقويض أي جهد دولي نحو تحقيق العدالة في المنطقة نجاحات منقطعة النظير، بفعل هيمنة الدول الداعمة لهم على القرارالدولي في الغرب والشرق خاصة من دول ست هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا وألمانيا وكندا، فالمشروع الصهيوني في فلسطين يسير منذ المؤتمر الصهيوني الذي انعقد في بال بسويسرا عام 1897 وفق ما خطط له بل تعدى المتوقع، وكان لهم ما أرادوا بصفقة ترامب العبثية، فما تحقق على أرض الواقع فاق كل التوقعات وتحول من أوهام وخيالات رسمت على الورق إلى حقائق على الأرض، وكان لهذا أسبابه الكثيرة منها على سبيل المثال، لا الحصر تحالف الحركة الصهيونية الاستراتيجي مع بريطانيا المستعمرة أولاً، حيث كانت تتحكم بأمر فلسطين، منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية، وبقرار من عصبة الأمم التي وزعت غنائم الحرب على الدول المنتصرة، وكان من بينها فلسطين، فبادرت بالحصول على شرعية انتدابها عليها، تمهيداً لفتح أبواب الهجرة الصهيونية لفلسطين من كل حدب وصوب، ودعمت المنظمات اليهودية لوجستياً وعسكرياً ومادياً تنفيذاً لوعدها المشؤوم بإنشاء وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وأيضاً دعم الحركات العربية المناهضة للفلسطينيين، ففترة الانتداب البريطاني لفلسطين، كانت هي نفسها فترة التحضير الجدي والعملي والكامل لاستيلاء الحركة الصهيونية على الأرض الفلسطينية.
ومن ثم تبني الولايات المتحدة الأمريكية، وباقي الدول الأوروبية للمشروع، وتقديم الدعم اللامتناهي لهذا الكيان المصطنع، إلى جانب تماسك، ووحدة الحركة الصهيونية وتشددها في تنفيذ كل ما تصبو إليه، ففرضت هيمنتها على القرار السياسي والأمني في المنطقة، وبمقابل ذلك كان هناك تهتك وتشرذم في مواقف الأطراف العربية الرسمية المقابلة، التي كانت تسعى لتنفيذ مصالحها من باب الربح والخسارة في كل موقف تتخذه سواء مع أو ضد النفوذ الصهيوني في فلسطين، مما أسهم في ضعف دورها لصالح الكيان المصطنع، مع أنه كان وما زال جلياً أن إقامة الكيان الصهيوني لم يكن يستهدف فلسطين وحدها وإنما إنشاء المشروع التاريخي على أرض فلسطين، ليتمدد تدريجياً على حساب دول عربية أخرى في المنطقة، لهذا سعى هذا الكيان المصطنع، وبدعم مطلق من داعميه ومنشئيه بإستمرار، لضرب احتمالات أي وحدة عربية أو تقارب أو تقدم عربي واستنزاف طاقات الجميع العربي فأفشلوا وحدة مصر وسوريا، وكانوا حجر عثرة كأداء أمام التضامن العربي، وكان وراء صنيعهم هذا حتى لا يتكرر ما جرى في مصر من نجاح بقيام مشروع محمد علي في القرن التاسع عشر، فكانت الدولة العبرية معول هدم لكل حركة بناء عربية، وبكل أسف أصبحت هناك مداهنة لها من قبل الكثيرين في المنطقة العربية وصلت لدرجة التغزل بقادتها ومواقفهم وغض الطرف عن الممارسات العنصرية التي تنفذها، وتعديها على مقدسات الأمة وتمريغ كرامتها في التراب، ورغم ما تصنعه في الأراضي الفلسطينية من قضم مستمر لها، ورغم ما تقوم به من دعم للحركات المناوئة لاستقرار كل الأقطار العربية والتي تعيث فساداً في مجتمعاتها، ومع علم النظام الرسمي العربي بذلك، إلا أنهم يصنعون كما تفعل النعامة بأن تضع رأسها في الرمال ظناً منها أنها حمت نفسها من أعدائها، أو كما تفعل الدجاجة حين تعفر الثرى على رأسها وجسدها، أو كالشبكة العنكبوتية التي تنسجها العناكب للصيد، وحماية نفسها في بيوت واهنة، سهل تفكيكها لفقدانها لأسس القواعد المتينة التي تحفظ أمنها والدرع الواقي من أي مخاطر تستهدفها، فتكون كما وصفها الباري عزّ وجلّ بأن بيوتها أوهن البيوت، وهذا ينطبق على الحال العربي العاجز عن درء الأخطار المحدقة به صهيونياً وإمبريالياً .
فالكيان الصهيوني الغاصب أعد وجهز لمجابهة كل جهد عربي يحاول وقف الحلم الصهيوني ، لهذا تمكن في العام 1948 من تحقيق حلمه الأول، بإعلان دولته وتثبيت أركانها على 78% من الأرض الفلسطينية، لأن القوات العربية التي دخلت فلسطين آنذاك لمنع قيام دولة اليهود كانت عبارة عن قطاعات عسكرية مبعثرة بإمرة قادة عسكريين، لا دراية كافية لديهم في تضاريس المنطقة، ولا قرار يملكونه لردع العصابات الصهيونية التي تشكل منها جيشها الباغي، مما أضعفهم في إدارة شؤون الحرب، إلى جانب أن القوات المشاركة كانت تمثل دولاً عربية، وكل منها بقيادة منفصلة، في الوقت الذي كانت فيه الحركة الصهيونية تقاتل بقوات عالية التدريب والتسليح، وتحت قيادة موحدة، فمنذ بدايات المشروع الصهيوني على أرض فلسطين في مطلع القرن العشرين، وحتى يومنا هذا، لم يواجه العرب الدولة العبرية كقوة واحدة، وتحت قيادة استراتيجية موحّدة، تعبر عن الإمكانيات القومية الجامعة للأمة العربية من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، بل كانت تحكمها عوامل لكسب ودّ الشارع العربي لا أكثر .
وما زاد الأمر سوءاً من الصراع ، ما حصل في تجزئة معالجة قضايا الصراع في المنطقة العربية، بعدما تم توقيع معاهدة اعتراف متبادل ما بين الكيان الغاصب ومصر أولاً تبعتهما الأردن ومنظمة التحريرالفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، أدى ذلك لنمو حركات مقاومة فلسطينية تقاتل العدو الصهيوني، شكلت بداية تحدياً إستراتيجياً أثار قلق قيادة الحركة الصهيونية وداعميها، دفع النظام الرسمي العربي للتضييق على تلك الحركات ما أدى لارتماء بعضها في أحضان دول أخرى كإيران الفارسية التي تخدم مصالحها من خلال الوقوف مع جبهات المقاومة وإلى حين. أي أن هذا الدعم لن يستمر طويلاً، بل يسعى فيما يسعى إليه تقويض النظام السياسي العربي، وهو نفس ما تسعى إليه الدولة العبرية في نهاية المطاف، فالتحالفات أو المواقف العربية الرسمية، منذ ما بعد حرب أكتوبر 1973 قوّض دور الجامعة العربية والتآلف العربي، وحركة النهوض العربية التي كانت تجابه كل ما يخطط له ضد الكيانات العربية في المنطقة، وخدم ويخدم المخطط الصهيو ـ فارسي الذي نصب شراكه التمددية في الجسم العربي بدون قتال، حيث تتناوب الآن إيران والعدو الصهيوني، ودول التحالف الغربي وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية لنشر الفوضى في أرجاء الوطن العربي.
الموقف العربي الرسمي، والإسلامي الذي يرى، ولا يريد أن يسمع، ودوره كالمتفرج الخالي الوفاض أصبح عاجزاً عن تحريك أيّ ساكن، بل انقسموا بين من يتدثر بالحماية العبرية أو التركية أو الفارسية أو الأمريكية، فتشتت شملهم وباتوا الصيد السهل والثمين على موائد اللئام، فتهمش دورهم بصنع أيديهم، وتكالبهم مع أعدائهم للنيل من كل من يحاول إسقاط النهج التآمري الدولي والمحلي والإقليمي في المنطقة العربية.
فالحركة الصهيونية ما فتئت، ولا ترددت منذ بدء الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين التاريخية في ابتلاع أي جزء من أرض فلسطين التاريخية، بل زادت في ذلك من خلال إرهابييها من المستوطنين مؤخراً، والتعدي على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وخاصة المسجد الأقصى الذي بات يتهدده خطر الهدم لإقامة الهيكل المزعوم مكانه، ولا يستبعد أن يقوم رجال “الماسون – البناؤون العرب” بتنفيذ هذه المهمة لتبرئة الصهاينة، وإضفاء شرعية على بناء ذلك الهيكل، وسط وضع عربي عام لم يعد قادراً فيه على مواجهة هذا الكيان الذي لم يعد يكترث، أو بحاجة إلى معاهدات سلام مع الدول العربية التي تتكالب عليها الخطوب من كل جانب، وما دام الوضع القائم يكال بمعايير مزدوجة دولياً تأخذ في الحسبان مصلحة الدولة العبرية قبل الجميع، فلا معاهدات اعتراف متبادل ممكنة ما لم تكن فيه الغلبة لهذه الدولة، وقد ساعد في ذلك بقصد أو بدون قصد تسابق العرب في التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتماهيه مع صفقة ترامب التصفوية للأرض والمقدسات والشعب الفلسطيني، وتخلَّوا طوعاً أو كرهاً عن أيّ ورقة من أوراق القوة التي قد تمكن العرب والفلسطينيين من فرض شيء، حتى ولو كان بسيطاً لصالح القضية العربية المركزية، وحقوق الشعب العربي الفلسطيني، وبات اللهاث وراء استرضاء أمريكا والعدو الصهيوني سنة النظام الرسمي العربي من بعد احتلال العراق، وتسليمة لإيران العابثة في الأمن العربي وللعدو الصهيوني، ونشر الفوضى في ليبيا بعد الانقضاض على نظامه من قبل الناتو الحبل الممتد لدعم دولة اليهود، وفي سوريا الذي حُوّل شعبها للاجئ في بلده، وفي الشتات، وتدمير اليمن وإفقاره وتقسيم السودان، وتهديد الأمن الغذائي والاقتصادي والمائي والاستقرار العربي، والعبث بالأمن لدول المغرب العربي الذي بات مهدداً بالانفجار، والصراع بين دوله بعد اعتراف ترامب بسيادة المغرب على الصحراء، وحتى العلمي خاصة منذ نشر وباء الكورونا في مختلف أنحاء العالم العربي، لزيادة وضعه الاقتصادي رداءة ما ينبئ بأفول النظام العربي الذي بات قاب قوسين أو أدنى من الانهيار التام.
كاتب و صحفي فلسطيني
ملاحظة هامة: المقال الأخير الذي ارسله عبد الحميد الهمشري لمجلة كل العرب قبل رحيله مؤخرا، رحمه الله و أسكنه فسيح جناته