إقصاء جونسون و العلامة الأمريكية
اقصاء جونسون والعلامة الأمريكية
أ. نسيم قبها
إن سجل بوريس جونسون السياسي من سلسة الأحداث التي تصدرت الصحف البريطانية والعالمية في الفترة الأخيرة غير مفاجيء، وبخاصة تلك التي سبقت استقالته. فجونسون ومنذ بداية حياته السياسية والإعلامية كان وصوليًا انتهازيًا في تعاطيه مع الأحداث والقضايا، حيث يتصف ببراعة كبيرة في قراءة المشهد السياسي وركوب أمواج السياسة وتوجيهها لبناء هالة سياسية شعبوية لنفسه بهدف الوصول إلى رئاسة الوزراء. وكان لهذه المكونات في شخصيته دورٌ مهمٌ في اختياره كرجل للمرحلة التي وصل فيها للحكم؛ لإنقاذ بريطانيا من الفشل والشلل السياسي اللذيْن نتجا عن الانقسام داخل البرلمان البريطاني، وتشظي الوسط السياسي، بعد صدور نتائج استفتاء “بركزت”، وفشل تيريزا ماي في قيادة الحزب وإتمام صفقة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
ومن المهم ذكره في هذا الخصوص أن جونسون والذي لعب دورًا رياديًّا في فريق “بركزت” كان قبل إعلان موقفه، قد أعد مقالين للنشر؛ أحدهما مناصر لعضوية الاتحاد والآخر مناصر للخروج منه، ثم قادته فطنته السياسية للسير مع المناخ الموجَّه أميركيًّا والتعبئة الإعلامية نحو الخروج من الاتحاد. سيما وأن فريق “بركزت” كان فاقدًا لعنصر “النجومية السياسية” التي تمكنه من إعطاء نوع من المصداقية لبرنامجه، وهو ما يؤكده استطلاع أعدته صحيفة الجارديان والتي بينت أن توجه التصويت للشعب البريطاني يمليه رئيس الوزراء كاميرون (44٪) ثم عمدة لندن بوريس جونسون (32٪). وهذا الواقع منح جونسون منصة لاستقطاب اليمين البريطاني وجمعه تحت لوائه. حيث وجد فريق “بركزت” ضالته في بوريس جونسون، والذي جرى تقديمه للرأي العام والوسط السياسي باعتباره “علامة تجارية. إنه من المشاهير. إنه فنان منجز”.
ولقد كان بوريس جونسون مؤهلًا بعد فوز فريق “بركزت” ليحل محل دافيد كاميرون رئيس الوزراء آنذاك، إلا أنه وفي اللحظات الأخيرة صرح مايكل جوف الوزير السابق وشريك جونسون في فريق “بركزت” أن جونسون “غير قادر على توحيد ذلك الفريق وقيادة الحزب والوطن”. وقام بترشيح نفسه مما نتج عنه توجه أصوات البرلمانيين من حزب المحافظين الذين لهم حق اختيار قائد الحزب الجديد نحو حملته وترك جونسون دون مؤيد، وهو الأمر الذي أظهر مقدارًا من عدم الثقة لفريق “بركزت” من أعضاء حزب المحافظين بوعود جونسون التي قطعها أثناء حملته الانتخابية، وعدم اليقين من الطريق الذي سيسلكهه لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأن مرحلة تسليمه الرئاسة لم تنضج بعد، وجرى دفع المسار لاختيار تيريزا ماي لرئاسة الوزراء في محاولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب لبريطانيا. إلا أنها وبعد ثلاث سنوات من المحاولات لإيجاد حل وسط، وفي ظل انقسامات سياسية في لندن، فقدت تريزا ماي الدعم الأميركي الذي ظهر بموقف ترمب منها، كما فقدت ثقة حزبها واستقالت بعد استقالة جونسون وجوف من حكومتها، مما مهد الطريق لجونسون “الفنان المنجز” ليقوم بدوره. حيث حظي جونسون بدعم كبير من الدولة العميقة؛ ومنها الهجوم الكاسح على حزب العمال وقائدهم كوربين من قبل الأجهزة الأمنية، وتسريبات “معاداته للسامية”، واستهداف أجندة حزب العمال السياسية بوصفها عودة للاتحاد الأوروبي، و”خيانة لأصوات بركزت” الشعبية، ما جعل جونسون يحصد أكبر أغلبية برلمانية منذ عهد بلير في عام 2011، مخترقًا جدار حزب العمال المضروب على المناطق الشمالية من إنجلترا.
إلا أن سياسة جونسون نحو “التسوية الاقتصادية” (Levelling up) للشمال بإعادة الاستثمار فيه، وفرض ضرائب خاصة لتمويل مصاريف قطاع العلاج الطبي والضمان الاجتماعي للعجزة، لم تحظ بقبول القوى السياسية والرأي العام، حيث تستهلك سياسات الضمان الاجتماعي والمعونات أكثر من 207 مليار جنيه سنويًّا؛ أي قرابة 60٪ من إجمالي مصروفات الدولة.
ويلاحظ ذلك الرفض لسياساته من السجالات الدائرة داخل حزبه، وانفضاض الشخصيات المهمة في حكومته عنه، وتسابق المرشحين لخلافته وتركيزهم على سياسات ضريبية تخفف من وطأة سياسات جونسون.
والحقيقة أن وتيرة ابتعاد غالبية قادة الحزب السابقين من رؤساء وزارة ووزراء عن جونسون قد أظهرت أنه لم يكن أكثر من رجل مرحلة لإنجاز الخروج التام من الاتحاد الأوروبي، وتقديم الخدمات فيما يتعلق باستراتيجية أميركا حيال روسيا في الحرب الأوكرانية، ودفع الدول الأوروبية في أجندة العقوبات الصارمة على روسيا.
وأما تداعيات مواقفه بشأن الوضع الداخلي فلم يتمكن من معالجتها وإخراج الدولة من معضلاتها الاقتصادية، بل إنه واجه فضائح ومُساءلات أخلاقية حيال خروقاته وبعض وزرائه لقوانين كوفيد، وحيال قضايا الفساد بين أعضاء حزب المحافظين، وخسارة حزبه لعدد من أعضائه، وخسارته في الانتخابات المحلية مطلع الشهر الماضي، مما أضطره للاختباء وراء أجندة “بركزت”، والعزف على وتر بروتوكول إيرلندا الشمالية؛ لاستمالة مؤيديه. لكن رهانه كان خاطئًا في التصادم مع الأوروبيين بشأن بروتوكول إيرلندا الشمالية، ومحاولته خرق الأولويات الأميركية لتحقيق مكاسب شخصية، مما أغضب أميركا. ذلك أن الأزمة في أوكرانيا أوجدت أولويات جديدة للولايات المتحدة ومنها الإبقاء على وحدة الصف للتحالف الغربي، ولم تعد تصرفات جونسون وأسلوبه محققًة للمصالح الأميركية سيما مع تمزق صفوف المحافظين الذي قد يعصف بثقلهم السياسي ويربك الأولويات الأميركية، فكان لزامًا على الولايات المتحدة أن تتخلى عن جونسون. وهو الأمر الذي تؤكده الرسالة الدبلوماسية الواضحة التي بعثها البيت الأبيض على لسان كبير مستشاري وزير الخارجية الأميركي وقال فيها: “يجب أن لا تؤدي المسألة الإيرلندية الشمالية لأي انقسام داخل الحلف الأطلسي حتى لا نسمح لبوتين بإيجاد ذريعة لخلخلة التحالف الذي قضينا أشهر في بنائه”. كما استنكر العديد من السياسيين من أعضاء حزب المحافظين مقاربات جونسون الشخصية، وعدم الوفاء بالتزاماته التي وقع عليها كرئيس وزراء من خلال “المعاهدات الدولية الموقعة” مع الاتحاد الأوروبي، ورغبته لأغراض سياسية الالتفاف عليها. ويستخلص من ذلك أن مهمة جونسون قد انتهت، وأنه قد ساهم في تعجيلها بسوء حساباته ورهاناته، من خلال استغلاله للأزمة الروسية الأوروبية، وخدماته الكبيرة لواشنطن في الملف الأوكراني؛ لتحقيق اختراق في الملف الإيرلندي، وتحصيل مكاسب نفعية وسياسية على الصعيد الداخلي.
وقد اتضح نفور الولايات المتحدة منه أثناء قمة الدول السبع الاقتصادية الكبرى في ألمانيا مطلع هذا الشهر، حيث تجاهل بايدن اللقاء مع جونسون بخلاف ما جرت عليه العادة بين الولايات المتحدة وبريطانيا بحكم “العلاقة الخاصة”، ولعل تجاهل بايدن لجونسون في قمة الدول السبع كان رسالة واضحة للقوى السياسية في بريطانيا للتعجيل بإسقاطه. ولهذا أظهر البيت الأبيض برودًا في تصريحاته تجاه استقالة جونسون، رغم تملقه لبايدن، ووصفه لفوزه بأنه “نسمة من الهواء النقي”. ورغم عمله معه كتفًا بكتفٍ لتنفيذ الأجندة الأميركية في أوروبا وشرق آسيا والشراكة في اتفاق أوكوس واتفاق الحماية العسكرية مع اليابان، والتي تسعى الولايات المتحدة لعسكرتها على غرار ألمانيا من خلال تعديل البند التاسع في الدستور الياباني، سيما مع ارتفاع رصيد الحزب الليبرالي بعد اغتيال شينزو آبي رئيس الوزراء السابق. ورغم استضافته لأول زيارة لبايدن من خلال تنظيمه لمراسيم إعادة توقيع “ميثاق الأطلسي”، واجتماع الدول السبع الاقتصادية الكبرى، حيث صرَّح البيت الأبيض أن الاستقالة “مسألة سياسية بريطانية داخلية خارج الحدود للتعليق العام”. وهذا ما أكده أيضًا تصريح الرئيس بايدن الذي لم يذكر فيه جونسون بالاسم، وإنما اكتفى بقوله أنه “يتطلع إلى مواصلة التعاون الوثيق بين أميركا وحكومة المملكة المتحدة” مشددًا على قوة التحالف و”العلاقة الخاصة بين الشعبين”.
وأما عن فضح بوريس جونسون من قبل روسيا بشأن علاقته معها، فلا بد من الإشارة إلى أنه يندرج ضمن إسناد روسيا للموقف الألماني الفرنسي في وجه بريطانيا، باعتبار أنها حصان طروادة الأميركي في أوروبا. ففضحه يأتي في إطار تلويث الدور البريطاني تمامًا كما فعلت الصحف البريطانية مع ألمانيا وفرنسا بخصوص السلاح الذي زودتا به روسيا، كما يندرج في دعم موقف حزب العمال البريطاني وإشعال النزاع بين الحزبين الرئيسيين في بريطانيا، وإضعاف حزب المحافظين ورجاله لصالح كير ستارمر زعيم حزب العمال في ظل موجة الفضائح والفساد التي ضربت حزب المحافظين، لا سيما وأن ستارمر بنى سمعته على أنه أنظف من الملاءة البيضاء.
والخلاصة من ذلك كله هي أن غالبية الوسط السياسي البريطاني مخترق أميركيًا ومقيد بالإرادة الأميركية، وهو ما تؤكده السياسات البريطانية المتماهية مع المواقف الأميركية، بل ويؤكده اعتراف عدد من الصحف البريطانية بسير بريطانيا في الفلك الأميركي.
كاتب و أديب من فلسطين