ملف ايران النووي رافعة الاقليمي.. قراءة في توظيف الرعب
ملف إيران النووي رافعة الإقليمي
قراءة في توظيف الرعب
أ. نسيم قبها
يقوم البيت الأبيض ووزارة الخارجية بمراجعة الرد الإيراني على مسودة مقترحات الاتحاد الأوروبي حيال الاتفاق النووي باستمرار ، حيث أوضح مسؤول في الخارجية الأميركية لقناة سي إن إن: “لقد أنهينا التفاهمات على بعض الأمور ويتبقى عددٌ آخر لم تغلق بعد”، وهو ما يشير لبعض المعوقات؛ مثل رفع العقوبات الأميركية واشتراط إيران أن أي اتفاق يصبح ملزمًا للإدارات الأميركية اللاحقة. وليس من الواضح حتى الساعة متى ستقدم الولايات المتحدة ردَّها، وبخاصة أن ثمة اعتراضات أميركية داخلية مشحونة بـ”الاعتداء” على سلمان رشدي بسبب فتوى إهدار دمه من قبل إيران، وهو ما يضع توقيت “الاعتداء” محل شك؛ أي في إطار التشغيب على إدارة بايدن بشأن الاتفاق. كما أن إدارة بايدن قد رسمت مسارًا للعودة إلى الاتفاق يشمل الصواريخ البالستية، وأعمال إيران السياسية والعسكرية “المشينة” في المنطقة. ومع ذلك فإن ثمة معطيات إقليمية ودولية تضغط نحو إنهاء الملف النووي الإيراني ظهرت عبر النشاط المتواصل للاتحاد الأوروبي الذي يعاني ضغط أزمة الطاقة بفعل الحرب الأوكرانية، ويحاول استغلال الموقف لحمل الولايات المتحدة على قبول مقترحاته التي قدمها مؤخرًا لحل مشكلة الاتفاق مع إيران، وسد فجوة تعادل إنتاج روسيا من النفط والغاز.
فما يجري من حراك بشأن الاتفاق النووي لا يزال قيد الإعداد الذي يمكن العدول عنه وإرجاؤه، سيما وأن التصريحات الإيجابية من قِبل الولايات المتحدة والمسؤولين الإيرانيين والأوروبيين ليست هي المرة الأولى التي توحي باقتراب الانفراج لأزمة الملف النووي الإيراني. فلقد أشارت تصريحات سابقة من طرف إدارة بايدن لانفراجة ثم تلاشت. ومما يزيد الأمر تعقيدًا أن إدارة أوباما أقرت قانون مراقبة اتفاق إيران النووي، وأعطت للكونجرس صلاحية الفيتو على أي قرار للرئيس وهو الأمر الذي أقر به مفاوض الرئيس روبرت أومالي في جلسة استماعه لدى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، والتي يترأسها السناتور بوب مينديس الديمقراطي والذي يُعرف بموقفه السلبي من الاتفاقية. وبالتالي فإن التوقيت لا يملك المدة الكافية لتنفيذ مواد القانون قبل الانتخابات الأميركية النصفية القادمة، ما لم يكن الأمر ذا أولوية وأهمية قصوى تمليها المعطيات الدولية والمصالح الأميركية، وعلى رأسها طمأنة الاتحاد الأوروبي إزاء الطاقة، والحفاظ على تحالفه في الأزمة الأوكرانية عبر إنهاء الاتفاق النووي مع إيران.
وفي إطار الحراك بشأن الملف النووي بشكل يعبر عن محاولة أكثر جدية لإنهائه هو امتعاض “إسرائيل” من الحراك الدولي في هذا الشأن، حيث صرَّح مسؤولون “إسرائيليون” للإعلام أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد أرسل رسالة للبيت الأبيض يحذرهم من أن مسودة الاتفاق تخرج عن الخطوط الحمراء للإدارة الأميركية نفسها وأنه “حان الوقت لترك طاولة المفاوضات… وحان الوقت لمناقشة ما سنقوم بعمله لمنع حصول إيران على سلاح نووي”، بالإضافة إلى إعلان الحكومة الإسرائيلية عن عزمها على إيفاد مستشار الأمن القومي الإسرائيلي إيال حولاتا الأسبوع المقبل إلى واشنطن لإجراء محادثات مع نظيره جيك سوليفان، لمناقشة تطورات الاتفاق النووي، وهو الأمر الذي حدا بالمتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي إلى القول: “التقارير بأننا قبلنا أو ندرس تنازلات جديدة لإيران كجزء من إعادة الدخول في الاتفاق النووي لعام ٢٠١٥ خاطئة بشكل قاطع”.
وبالعودة إلى خروج الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني سنة 2018 نجد أنه لم يكن تصرفًا نزقًا من رئيس مشاكس، بل على العكس، فقد حرَّر إيران من تبعات الاتفاق ومكنها من تسريع وتيرة تخصيب اليورانيوم وزاد من فزع دول الخليج وعمّق حاجة “إسرائيل” لأميركا، وبرر لإيران التمسك بمكتسباتها التي حققتها من خلال فوضى الربيع العربي وجعلها لاعبًا أساسيا في المنطقة، برغم العقوبات والحصار اللذيْن أحدثا اضطرابًا اقتصاديًّا وتذمرًا مجتمعيًّا في إيران. إلا أن الأخيرة قد تمكنت من تجاوز أغلب هذه المشاكل بطرق التفافية، واستطاعت تصدير كميات كبيرة من نفطها للسوق العالمي، وتمكنت من السير في مقاربات تحفظ كيانها وجزءًا من مكتسباتها، وفتح خطوط تواصل مفيدة مع الصين وروسيا وأوروبا مع بقاء قنواتها مفتوحة مع الولايات المتحدة. كما لم تكن العودة للاتفاق من قبل إدارة بايدن ردة فعل من رئيس على رأس عمله، على تصرف رئيس منصرف؛ بل هي عودة مدروسة من قبل الإدارة الأميركية يؤيدها الأوروبيون بصفتهم جهة راعية للاتفاق ومتضررة من أزمته، ويمكن للولايات المتحدة أن تعمق من خلال تمرير المقترحات الأوروبية تحالف الاتحاد الأوروبي معها في سياساتها تجاه الصين وروسيا، واحتواء السلوك الإسرائيلي وما شذ من سلوك إيراني؛ ذلك أن الإدارة الأميركية سعت بكل خبث إلى تجاوز بعض من سياساتها السابقة فيما يتعلق بقضية فلسطين وجنحت إلى مسار تصفيتها عبر الحل الإقليمي. فبعد أن كانت تريد من الكيان الغاصب تقديم تنازلات، حملت الدول العربية على تقديم هذه التنازلات، والتخلي عن مبادرتهم التي أقرتها قمة بيروت 2002، والتي نصت على انسحاب إسرائيلي كامل من الأراضي العربية المحتلة سنة 67 بما في ذلك الجولان، مقابل توقيع اتفاق سلام شامل بين الدول العربية و”إسرائيل”. غير أنها استبدلت صفقة القرن بهذا الاتفاق، والذي ينص على تطبيع شامل، مقابل اتفاق سلام دائم مع إسرائيل بلا مقابل، وإحالة ملفات قضية فلسطين وذيول الاحتلال إلى ما يتمخض عن هيكلة النظام الأردني واللبناني والسوري، وضمان معالجة قضايا الحل النهائي بشأن القدس واللاجئين، والرأي العام الإسرائيلي وضبط فصائل المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي على إيقاع الحل الإقليمي.
وبناءً على ذلك خرجت أميركا من الاتفاق النووي الإيراني، وَسَعت إلى تحجيم النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان، بالتوازي مع ارتفاع وتيرة التطبيع والتقدم في الحل الإقليمي، ومن ذلك محاصرة حزب الله وقطع الإمداد عنه في سوريا، وتقويض نفوذه في الداخل، وإضعاف تأثيره في صنع القرار اللبناني عبر قضايا لبنان الملتهبة من كل حدب وصوب، بالإضافة إلى تكثيف الضغط على الحوثيين لتخفيف العبء عن ابن سلمان وتمكينه من اتخاذ خطوات خيانية بشأن التطبيع والتحالف مع “إسرائيل”، بعدما نجحت في تعزيز الكراهية بين العرب وإيران، وإبراز جرائم الأخيرة في حق العرب “السنة” في العراق وسوريا، وفي دعمها للحوثيين الذين انقلبوا على “الشرعية”. وأوجدت من ذلك كله مناخًا من العداء والكراهية لإيران، وصنعت منها عدوًا لأهل المنطقة، ووفرت المبررات للدول العربية للتقاطر على توقيع اتفاق سلام مع الكيان الغاصب، وتطبيع العلاقات معه، تمهيدًا لإدخال دول أخرى إلى نادي المطبعين والمتحالفين.
وبذلك تكون أميركا قد حققت ما تريد إزاء الحل الإقليمي وتصفية قضية فلسطين ودمج الكيان الغاصب في المنطقة متخذة من الفزاعة الإيرانية وملفها النووي رافعة للحل الإقليمي.
ومن هنا فإن احتمالية عودة أميركا للاتفاق النووي الإيراني هو نتيجة لما تحقق من إنجاز على صعيد دمج الكيان الغاصب اقتصاديًّا وعسكريًّا وأمنيًّا بالدول العربية عبر اتفاقيات وأحلاف عسكرية بحجة العدو المشترك.