(زيارة مؤلمة لكن لا بد منها)
(زيارة مؤلمة لكن كان لا بدّ منها)
أ. فتحي جوابرة
ثمة زيارات نخطّط لها ونعرف مسبقا أنها ستكون مؤلمة، ولكن لا بدّ منها، فأن تزور قريتك الأصلية التي هُجِّر منها آباؤك وأجدادك ليس بالأمر الهيّن.
قبل سنتين سنحت لي الفرصة فعبرتُ من فتحات الشبك الفاصل بين أرضنا وأرضنا وزرتُ السنديانة، وجدتُها حزينة منكفئة على حجارتها، عاتبةً علينا كثيرا، فلم يكن لديها الرغبة أن تردّ السلام، عندما قلت لها:
– “السلام عليك يا بلدنا”.
ولسان حالها يقول:
-“طولتوا الغيبة يا أولادي” .
ربما يئست من عودتنا فاستعاضت عنا بالزرد والعليق والزعتر والميرمية والأقحوان، وصنعت من شجيرات الصبر وأشواك الخرفيش سياجا يُعيد لها ذكريات الدروب والأحواش والسناسل.
هناك على مدخل المقبرة وقفتُ وقلت للأجداد:
-“السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم السابقون ونحن اللاحقون”.
كانوا نائمين بهدوء، ولم يجبني أحد، فساورني الشكّ أنهم يحملونني وحدي المسؤولية عمّا حصل ويحصل اليوم. قرأت الفاتحة على أرواحهم، وصليتُ العصر بينهم، وغادرتهم وأنا أشعر بذنبٍ ما لا أدري ما هو.
هناك وأنا أتجوّل في هذا العالَم القروي المطمور، وقفتُ على بقعة صغيرة رماديّة التراب، فتفحّصت ما حول قَدَمَيّ لأكتشف بعد حين أنه سَـ chــن، واقتحمتْ أنفي رائحة الطوابين، وطاف في مخيلتي تلك المرأة التي طوّقت خصرها بالزنار العكاوي وعلى رأسها عصبة، وحضرت إلى مرفق من مرافق مملكتها الخاصة، وطرحت السَـ chــن جانبا… رحلتْ هي وبقي الطلل دليلا على أنّ فلّاحة سنديانية صنعت حياة هنا ذات يوم.
أشاروا لي بأن موقع المدرسة قابع هناك، فانطلقت إلى حيث أشاروا، جدران مهدّمة آثرت أن تلوذ عن أنظار المتفرجين بين الزرد والسريس، ومن هناك قادتني غريزة الموطن نحو بيت جدّي، وعثرت عليه بين الركام والأشواك. اشتممتُ رائحة جدّي وجدتي في المكان، وناجيتُ حجارة البيت، ودمعت عيناي…
يتّسم زعتر قريتنا باللذوعة الشهية والرائحة النفاذة، ويتميّز ماؤها بالبرودة وسلاسة الانسياب إلى المعدة، أما ترابها فتشعر أنه خليط مركب من التعب والعَرق واللهجة الروحائية الحيفاوية ورُفات العظام والأقمشة البالية.
ميرميتها وزعترها خُلِقا لها فقط، فليس غريبا أن يأبى العيش في بلاد أخرى غيرها؛ فقد جلبتُ عدة شتلات من أرضها وزرعتُها في مكان إقامتي، لكنها ماتت رغم العناية الحثيثة بها، وعلى ما يبدو أن ميرميتها وزعترها أكثر انتماء منا إليها.
غادرت أطلالَ قريةٍ كانت عامرة بناسها وأنفاسها ذات يوم، ثم أمست حجارة متراكمة على بعضها، غادرتها وأنا أشعر بركام عجزنا عن العودة إليها، غادرتها وأنا أشعر بالهزيمة، فثمّة فرق كبير بين عيادتها والعودة إليها. نحن ندرك أنّ قرانا المهجّرة مريضة ومشتاقة لنا ويتوجب أن نعودها، لكنّ الأوجب أن نعود إليها؛ فإن كنّا عاجزين عن الحياة والموت فيها، فلنعِشْ أو نَمُتْ من أجلها.
انهضْ يا وَجَعا في القلبِ، أتُراكَ وَهَنْت؟ أغَدَوْتَ عجوزًا يكسِرُ أنفكَ تِبْغٌ أو قهوة؟ وشرِبَتْ غلواءَكَ أمواجُ القهر؟ سنواتٌ سبْعٌ فِرعونية أكلتْ كلّ الثورة فيك… انهض، فإني مأساة من أسطورة حيفا، أحيا بالوجع المرسوم على خيط النّاي… وأستنسخ ذاتي من بذرة قمح في وادي القرية، ومن عباءات البلوط المتساقط في كرمل حيفا.