عبور في ممرّ الموت
قصة قصيرة – الجزء الأول
فتحي زيدان جوابرة
انسلختُ بسلاسة من جسدي وكأني نسخة شفافة، وارتفعت قليلا، كنتُ كظلّ شفّاف أو طيف، رأيت جسدي عاريًا بلونه اللحمي مسجّى بلا حراك، باب غرفة العمليات وستائر الشبابيك والأرضية وأثاث الغرفة تتماوج وتختلط ببعضها، الأطباء والممرضون تشوّشت معالِمهم وكانوا يتجادلون بكلام لا أفهمه، استطالوا وتمطّطوا ثم تداخلوا وتماهوا في الصورة الغائمة المتمايلة للغرفة كلها، التي ما لبثت أن صارت ظلالا ملونة، وتلاشى الجميع في الهالة بما فيهم جسدي الذي كان مسجّى على السرير. لم يتبقَّ شيء غير طيفي وظلال ملوّنة. ارتقيتُ ونفِدت إلى الأعلى من سقف هلاميّ شفّاف.
بدا لي المستشفى كعلبة الكبريت بين مباني المدينة التي صغرت وتضامّت إلى بعضها، فصارت المدينة كلها مصغرة متراصّة، يُمزّق هذا التراصّ طرقات متواصلة لا نهاية لها ولا بداية، تمرّ عليها أشياء كالنمل بسرعة مهولة، ثم ما لبثت المدينة أن تناثرت وتفتّتت بما فيها، وصارت هباء منثورا. بدأتُ أتناسخ من طيفي بسرعة فائقة، نُسَخا متتابعة متلاحقة لا تُعدّ ولا تحصى، تتحوّل إلى أطياف وظلال وهالات، حتى تبخّرتُ في فضاء فسيح جدّا بلا ألوان محددة، يدور بشكل إهليجي، ثم ما لبث أن تضامّ إلى بعضه وتكاثف واسمرّ لونه شيئا فشيئا حتى صار فاحما حالكا، مجرد سَواد قاتم عائم بلا مكان ولا حدود، صامت ساكن، وأنا فيه لا شيء، حتى طيفي الذي انسلخ من جسدي لم أعد أحِسّ به. تحول العائم الأسود إلى نفق فائق السواد يدور حول ذاته، وأنا أنطلق فيه بشكل لولبي وبسرعة مهولة وبلا إرادة مني، وأنا لا معالم لي.
النفق الغربيب الأسود لا ينتهي، وأنا لا أعي الزمان ولا الاتجاهات، ولكنني سألت ذاتي التي لم أعُد أعيها: ما الذي يجري هنا؟ وإلى أين أنا ذاهب؟ متى ينتهي هذا النفق الغربيب؟ وهل سيقودني إلى وادٍ سحيق؟ أم إلى سرمدية من الظلام الدامس؟. والعجيب في الأمر أنني لم أكن خائفا. أخذ اللون الأسود يتداخل بدرجاته عبر النفق، وبدأتْ تتراءى حولي ظلال متباينة في كثافة سوادها، ثمة خيوط ونقاط وبُقَع خطوط متدرجة بالسواد، وأقواس قزحية سوداء تتشكل من لون واحد متعدد الدرجات، منها الفائق الغربيب والفاحم والحالك والغامق والأسحم والفاتح… ثمة بقعة ضوء لامعة في البعيد، خيّل إليّ أنها نهاية النفق، وأنا أسير نحوها بمشيئة خفية ليست نابعة مني، وبلا شعور وإدراك، أسير ولكن بلا وصول ولا مسافات مقطوعة.
تزايدت الظلال والخطوط والأقواس والنقاط، واتّسع النفق شيئا فشيئا، واستحال إلى امتداد فضائي، ما لبث أن صار ضبابيا رماديا. لم أكن أدرك أنني أرى وأفكر، ولا مشاعر تتملكني، ورغم ذلك فأنا شيء ما موجود في هذه المادة الفضائية مجهولة المكان والزمان، ولكن لا ماهية لي ولا حدود.
قفز مشهد فوضوي بلا ملامح من حيث لا مكان: أصوات بعيدة تتقطع، وفجوات تتّسع ثم تتلاشى، وألوان تنبثق متداخلة في بعضها، يزول لون ويلمع آخر، تتعارك فيما بينها وكأنها في معركة، تنمحي وتعود لتتخالط، ينشأ عنها شيء ما لزج ومائع يتمطّط وينتشر، لا يلبث أن يجفّ ويتكسر ثم يتحول إلى حطام وفتات متناثر ويتلاشى كل شيء… أنا موجود أرى وأسمع لكنني بلا معالم واضحة، شيء ما في رأسي يحاول أن يعي ما يدور، ولمع في ذاتي أمل بالخلاص، عيناي تتّسعان وأذناي تكبران…
تكرر المشهد في ذاك الفضاء العائم، أصوات وفجوات وألوان وبقع ضبابية، ثم سكن الصوت وتلاشت الألوان، وبقيت النقاط البيض تلمع في سواد مطبق، وعادت الصورة لسوداويتها، فسألتُ ذاتي أو (أنا) غير المحددة إن كان ثمّة ساكن تحرك، أو ضوء مَرّ أو كائن ظهر، ووعيتُ أنني شيء ما موجود في عالم غيبي. ساد الصمت في الهالة السوداء، وأنا تشبثت بأمل الخلاص لبرهة…
عادت الفوضى واتّسعت عيناي، تضخّمت النقاط البيض، والخطوط الملونة أخذت تدور حولي، لكنّ السواد ما زال منتشرا، ثمة أشياء أو كائنات ظهرت من بعيد مجتمعة، ولما اقتربتُ منها تبعثرت ثم تلاشت، أراها لأول مرة، ولا أستطيع تحديد ماهيتها. لمحتُ في أقصى البعيد هياكل عظمية ومخلوقات شبه بشرية عارية، وأخرى غير بشرية باهتة تخبّ في سيرها خبّا، وتغيب في ضباب أسود، وسمعتُ أصواتا تنمو سريعا وتزول بلمحة. ثمة عِراك وعواء وصراخ متقطع مبتور هناك في الضباب، والهياكل العظمية تتراكض تباعا وتختفي، كانت بعيدة ولم تنتبه لي، أو أنها لا تعيرني انتباها.
وأنا لا أتوقف، أسير بلا أرجل في عالم غريب مجهول، عيناي تتّسعان وأذناي تكبران، وعقلي لا يسعفني بشيء. أزاحني شيء ما باتّجاهٍ آخر، فولجتُ في فجوة رمادية جافة وقاحلة، تتشكل منها فجوات وحجرات كثيرة ومختلفة، وتتناثر فيها قطع حجرية سود وحمر، وقطع معدنية وأشياء أخرى متنوعة الأشكال والأحجام، رأيت ذاتي مسمارا بين حُطام متناثر لا يُعلَم له قيمة. تحوّلت هذه القطع إلى جماجم وعظام متناثرة وأشلاء مخلوقات ممزّقة مترامية في الأنحاء، حيث لا مكان. وفجأة سمعت صراخا متقطعا، فأصغيت والتفتّ، وإذا مخلوق مقزّز يلتهم ثديًا متبقّيًا في جسدٍ مشوّهٍ لامرأةٍ تشبه البشر، ولهذا المخلوق رأس لحميّ بلا جمجمة يتمطّط ويتمايل كالمادة الهلامية، وعيناه مدوّرتان محمرّتان كالجمر الملتهب، وأنفه يتطاول ثم يتلاشى في ثدي المرأة التي تصرخ وتتقيّأ، وهذا المخلوق فوق المتوحش المقزّز يلعق القيء بلسانه، رآني لكنه لم يكترث لي أبدا، وتراجعتُ أنا خطوة إلى الخلف، فدفعني شيء ما إلى الأمام، وقال:
– “إياك أن تتقيّأ فيأكلك كائن مثله ينتظر هناك في مسرب الحجرة النارية”.
سِرتُ بلا أرجل، في مكان ليس فيه مسافات. الهياكل العظمية تراني ولا تبادر إلى إيذائي، وأنا لا أعي ذاتي إن كنت خائفا أم غير خائف، دوّامات تدور في رأسي الذي لا أحسّ بأنه موجود، هيكلان كانا يتضاجعان على مرقد ناريّ مجمّر، وآخر فتح فمه المتكون من أسنانه فقط، وقهقَهَ في وجهي، وفجأة جذبته بقعة حمراء جانبية، وكأنها مغناطيس، وتلاشي فيها يصرخ ويولول. ثمة كُتَل لحميّة ناريّة ملتهبة، وأخرى متفحّمة، وفي مسارب الحجرات السود تتعلق خفافيش ذات آذان عريضة متطاولة، تذرق تحتها، وثمة مخلوقات تشبه الأفاعي، تتناسل من بعضها، مسلوخة الجلد، لونها لحمي، قبيحة جدا، تلِغُ الذرق وتلعق مؤخّرات الخفافيش.
شعرت بالتقزّز لكن لم أكن خائفا، توقّفت برهة أنظر حولي، لا أستطيع التقدم ولا التراجع، وحوصرت في ممر ضيق، ونسيت حلمي بالخلاص لبرهة… اقترب مني كائن لحميّ سدّ أفق الرؤية لديّ، فتح فمه القبيح وهمّ أن يبتلعني في جوفه، وبلمح البرق خرّ من الأعلى شيء ما ناصع البياض، فأحرق الكائن اللحمي الذي زعق زعقة مدوّية واستحال إلى فتات متفحم.
ثمّة مخلوق عظميّ كان بالجوار، رأسه خنزير وجسده قرد، يأكل البراز والقمل، حيث يضع كفّه تحت مؤخرته العظمية الحمراء، ويستجمع ما يخرج منها ثم يلتهمه ويلعق أصابعه، ويلتقط القمل من رأسه وأسفل بطنه ومؤخّرته. رآني في اللحظة التي انتبهت أنا له فيها، فزعق ولطم على رأسه وقفز على مرقد مجمّر وبحلق بي، ثم أكمل وجبته المقزّزة من البراز والقمل. مشيتُ خطوات بين حطام هذا العالَم الغريب، وإذا قزم لحمي يجلس على جمجمة، ورجلاه تغطسان في سائل لزج قاني الحمرة. سألني بصوت مخنوق رفيع:
-“من جاء بك إلى هنا؟”. لم ينتظر جوابا وأكمل:
-“مكانك ليس هنا. غادِرْ قبل أن يأتي طوفان الدم”.
رأيت في البعيد مخلوقات غريبة تشبه الضباع والذئاب، مقبلة نحوي بسرعة فائقة، تتقافز على الصخور والحطام، وتتماهى في بعضها وتتناسخ، ويسبقها صوتها اللاهث، أحسست أنها غير مهتمة بي ولا تقصدني ولا تنوي إيذائي، ولكنني شعرت بالخوف، ذلك أنني أعترِض طريقها، فربما تدوس عليّ وتسحبني معها، وشعرت بأنه يتوجب علي أن أبتعد عن طريقها وأنجو، لكن لا أدرك كيفية النجاة. وإذا بالسهم الأبيض يخِرّ من الأعلى بسرعة مهولة، ويقتحم ذاتي ويتماهى فيها، ويؤزّني للسير، قال لي:
– “غَلِّقْ عينيك وضع أصابعك في أذنيك وامتنع عن النَّفَس، واستمر بالمسير ولا تتوقف أبدا”.
– “لا أقدر، أمامي مخلوقات مخيفة ومستنقع الدم ومجاري القيء، وهناك أفاعي تسبح بين البقع السود والحمر وتنساب بين الحطام، وفي البعيد وادي النار الملتهب، وفجوات نارية سحيقة”.
دفعني وقال:
– “هيّا لا تتوقف. النبي إبراهيم طُرِح في النار ولم يحترق. النبي يونس نجا من بطن الحوت. النبي يوسف أسْقِط في غيابة الهُوّة وخرج. النبي موسى اخترق لُجّة البحر وعبر إلى البر”.
– “أولئك أنبياء وأنا لست نبيا”.
– “النبي محمد نزل عليه كلام يُقرَأ. اقرأ وسوف تنجو”.
بدأتُ أتذكّر ما يتوجّب أن أقول، وقلت: “أشهد أن لا إله إلا الله، محمد رسول الله”، “قل هو الله أحد”، قل أعوذ بربّ الناس”. لكنني لم أكن أسمع صوتي. أكملت المسير وكنت أرى كلّ شيء رغم أنني أغلق عينيّ، ورأيت ذاتي أطير وأسبح، وبدأتُ أرتفع إلى الأعلى والذئاب والضباع والنيران والأشباح والمخلوقات المقززة وكلّ الأشياء تتلاشى عندما أقترب منها، وقبل أن أمُرّ فوقها. بدأت البقعة البيضاء البعيدة تتّضح شيئا فشيئا، وأنا أسير نحوها إلى الأعلى، وزالت الأشياء الغريبة، وظهرت الألوان: الأبيض والأصفر والأخضر والسماوي، وبدأت تتّضح ملامح البساتين والحدائق والمياه الجارية، وثمة نور أبيض عجيب يشعّ في المكان، ظهرت الأشجار والفواكه والزهور والنحل والفراش المنتشر بألوان زاهية، وبرز اللونان الأسود والأحمر بشكل مبهر رائع بين سائر الألوان، وانتشيتُ أنا وشعرت بالسعادة الغامرة، وساورني تفكير أن هذه هي الجنة الموعودة، وأن الله راضٍ عني، وأنّ السهم الأبيض الخارق ما هو إلا ملاك أنقذني من الجحيم.
بدأت تظهر لي وجوه بشرية جميلة، يرتدون أثوابا بيضا وخضرا، يبتسمون لي وكأنهم يعرفونني، ولا يتكلمون، وأنا لا أعرف أحدا منهم، وشعرت بالارتياح الكبير ونشوة السعادة الغامرة، وسألتهم:
-” أنتم أهل الجنة؟”.
استمروا بابتساماتهم، ومدّوا أذرعهم وفتحوا لي الطريق، ومررت من بينهم إلى فضاء فائق الجمال والروعة. فراش وطيور ملونة وعصافير خضر صغيرة تزقزق، أرانب تتقافز في الحقول الخضراء، دروب معبدة بالحجارة والمعادن اللامعة، فواكه لا أعرفها تنتشر في الأنحاء، طنين النحل والفراش يُضفي على المكان سحرا وروعة. وثمة أشخاص تلمع وجوههم وتتوهج ثيابهم بالألوان الزاهية، يقطفون الفاكهة ويبتسمون لي ولا يتكلمون. وثمّة فتيات فائقات الجمال، روعة إطلالتهن لا يمكن أن توصف، يظهرن في الأعالي فوق البساتين، ويبتسمن لي، ويتحولن إلى فراشات ملونة تطير في الأجواء. تكونت لديّ رغبة جامحة للوصول والاقتراب منهنّ. رأيت عدة نساء رزينات مهيبات الطلّة بثياب ملوّنة بألوان فائقة الروعة والحشمة، وكانت جدّتي لأمي وجدتي لأبي تقفان أمامهنّ، فقلت:
-” جدّتي جدّتي أين أنا؟ ما هذا المكان؟”. فأجابتا بصوت واحد:
– ” هؤلاء جميعهن جَدّاتك. لكن كيف وصلت هنا؟”.
رأيت رجالا كثرًا يصطفون أمامي على شكل نصف دائرة، جميعهم يرتدون ملابس متشابهة، وبدا لي أنهم لطيفون جدا، لكنهم كانوا متفاجئين من قدومي إليهم، ولما اقتربت من أولهم أشار لي بأن ألتفّ بالمسير بشكل دائري كهيئة اصطفافهم، وكل واحد منهم يشير بيده نحو اليمين باتجاه الآخر، وهكذا حتى وصلت إلى آخر رجل منهم، فقال لي مبتسما:
-” يا بنيّ لم يَحِنْ وقتك بعد. عُدْ إلى الدنيا”. وبلحظة رأيت ذاتي أهبط بسلاسة وانسياب في فضاء مائي بلون المني تماما.