ذاكرة لم تنطفئ
نائل البرغوثي
أ. سليم النجار
الحكاية التي تأبى أن تبقى ظلا للرصيف، و انتفضت على الشكل الآتي:
ليست الحياة بين فلسطين التي غادرها والدي، والشتات شهوته للعيش أو البحث عن غريزته في أزمة الحكاية، هي كانت وصفة طبية للبقاء على قيد الحياة٠
كان مطمئناً لعدل السماء٠ لا أعرف إن كان هروبه من الفقر، أو اختار المشي طوعاً إلى أرض فتحت تُرابها قبراً مشتهاة لوحشة النسيان٠
باتت الريبة والخوف هاجساً كلما تذكر رحلته سيراً على الأقدام نحو أرض السمن والعسل، أو هكذا تصوّر أن منتاهة رحلته البرّية، سيتذوق طعم الشبع، شعور يمزق وهم الجوع إرباً إرباً٠ ولم يعرف أن ما شعر به من شبع، لا يُبقي على أحدٍ على حاله، ولا شأن يدوم٠
تُرى ما كتبته إلى الآن هرشة دماغ، أو إلحاح من مآسي الساعات التي تُعرف يومنا٠٠٠ بأننا أحياء نشتم رائحة الخوف من القادم٠
كنت أسمعه بنصف عين، ونصف وعيّي الآخر مع إيمان مرسل، وأشباح الكلمات تتخاطف من حولي و وسوساتها تملأ رأسي، بأنانية الذكرى٠
حاولت قدر الإمكان الاستماع لروايته، واعتبرت كل ما قاله بدأ بالشخصي، وذاكرته اختزنت كلمات لا يريد البوح بها، في تلك اللحظة خرج أهالي حارة سوق الصباح من الذكور، بعد سماع أذان صلاة الجمعة لأداء الصلاة، وبقي مُصرَاً على سرد حكايته٠
بدأت الشمس تبتلعها الظلمة رويداً رويداً، والذكريات تتلمس طريقها في شوارع لا أذكر اسمها، اختلطت الأسماء عليّ لكثرة مقارعتها ترحلاً مرّة، وتهجيراً مرة أخرى، ونفياً في معظم الحالات حفاظاً على أمن الناس من الفيروس الذي أحمله٠
لا زال أمامي متسع من الوقت، ربما كنت أعرف أنّ الوقت جسر واهن، وخط مستقيم يربط بين طرفي حكايتين مختلفتين، لكل منها أناس ومناخات وآفاق غير معلومة ٠
أومئ لي برأسه أن أستمع له جيدًا كأنه ينهي حياته بقوله، (القبر أرحم من تيه الصحراء)، فصورة الرجل الذي وجده بشكل مفاجئ وهو يسير في صحراء لا عنوان لها، يبكي بحرقة على تلة مرتفعة قليلاً، وعندما سأله عن الحكاية، أخبره أن رفيق دربه، سقط مغشياً من العطش، وحرارة الشمس، وفارق الحياة٠ وأقسم إنه لا يكمل المسيرة وسيبقى جاثماً على التلة التي احتضنت رفيقه٠
وقفت عاجزاً أمام هذه الصورة، التي التقطها والدي من ذكرياته، وكنت أخشى الإجابة٠
الآن امتلكت الشجاعة وسألت نفسي لماذا رحل والدي وهرب مني؟ أيها الكائن الصلد كالفولاذ، والصخر التي يمكن أن تنبثق منها مياه الحياة آحياناً٠
الآن استمع لحكايتي وسؤالي، نائل البرغوثي حكايتي، وسؤالي ما هي العلاقة بينك وبينه، لن أجد إجابة؟
نائل البرغوثي فقد حاسة الشم لورد الربيع، وأرتال من الجنود المدججين بأحدث الأسلحة، ينتشرون في شوارع رام الله، يفتعلون الحواجز من أجل السماح، لأرتال أهالي رام الله بالعبور، أرتال النفوس، أرتال يتكدسون في الحافلات و(السرافيس)، والسيارات التي تنظر السماح لها بالعبور، الكل مضطر للانصياع خافض الرأس يتلمس طريق العودة لبيته للانهيار على عتبة داره٠
كل يوم أتهيأ، استيقظ باكراً، أرش عطرا رخيصا على وجهي، لأن النقود التي امتلكها لا تسمح لي بأكثر من هذا الرخص، اتركه ربع ساعة حتى يذهب مفعوله القوي، ويبدأ بالذوبان مع الذكريات، استحم بكلمات باردة٠
سيرة نائل البرغوثي تعشعش في روحي، الذي ولد في قرية كوبر شمال رام الله، عاش في زنزانة وحده ست سنوات، وبقي الغطاء معه، رفيق دربه ووحدته، خمسة عشر عاماً٠ و “بكرج” القهوة سبعة عشر عاماً٠
هرولت خلف سيرته بصمت، تنقل بين “٨٠” زنزانة، لا يرى الضوء، ولم يتذوق طعم اللحمة” ٤١”، ولا لمس يد طفل، ولا شرب شاي بميرمية، ولا تناول مسخن أو أقراص زعتر، كانت محرمة عليه، لأنها تحفز ذاكراته أنه ابن الأرض هم راحلون، وهو باقي٠
نائل البرغوثي يردد على مسامع سجّانه، إنه يحلم بالخروج ويُقبل يد أمه ويسلّم عليها، توفيت والدته، ولم يقبل يدها، توفى والده، ولم يُسمح له بالمشاركة بالجنازة، توفى الخال، توفى العمّ، اعتقل الأخ وتوفى، استشهد ابن الأخ، والثاني نفذّ عملية فدائية وحُكم عليه مؤبد٠
توقفت قليلا بعد أن رفضت الكلمات أن تسطر على بياض الورق، تضامناً مع ما قرأته من سيرة نائل٠
من سوء حظي قُمت بانقلاب على نفسي، وواصلت الكتابة، ومارست الديمقراطية التي تعلمتها في حياتنا، على الكلمات وأمرتها بإطاعتي٠
نائل البرغوثي أقدم أسير فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهو عميد الأسرى، اعتقل للمرة الأولى في (١٨- ديسمبر العام ١٩٧٧) ، وحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة أشهر، وأعيد اعتقاله بعد”١٤” يومًا من الإفراج عنه بتهمة مقاومة الاحتلال، برفقة صديقه فخري البرغوثي، ليصدر بحقهما بالسجن المؤبد و”١٨” عامًا٠
تذكرت أن نائل البرغوثي إنسان، مارس حقه بعد أن أفرج عنه في غفلة من الزمن عام (٢٠١١) وتزوج من الأسيرة المحرّرة إيمان نافع من نفس العام، التي اعتلقت في عام (١٩٨٧) وأفرج عنها في فبراير عام (١٩٩٧)٠
عاقبته “إسرائيل” على فعلته الشنيعة، الزواج، ففرضت عليه الإقامة الجبرية وألا يخرج من رام الله وقراها، تقول زوجته (منذ إن تزوجنا، كان يخرج نائل من المنزل بعد صلاة الفجر، يذهب إلى الأرض، فهي مقدسة بالنسبة إليه، يفلحها ويزرعها، يحب الأزهار والورد، التي تنتشر في الجبال، وكان على قناعة بأنه يجب ألا تقطف وأن تبقى مكانها)٠
وما زلت ألهث خلف نائل البرغوثي، فبعد زواجه، التحق بجامعة القدس المفتوحة، ودرس عن بُعد، التاريخ، وفي ( ٨) يونيو العام ٢٠١٤ ألقى خطابا في جامعة بيرزيت، وعلى أثر خطابه تم اعتقاله، وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف، ولكن قرر الاحتلال الإسرائيلي إعادة حكمه القديم بالمؤبد٠ رغم أنه خرج من السجن ضمن صفقة وفاء الأحرار عام (٢٠١١)٠
قُلت جملتي الأخيرة بعد لحظات من سماع خبر وفاة والدي في الشارقة، ذاكرتنا لن تنطفئ، ونائل البرغوثي فصل من حياتنا٠