كل الثقافة

رواية اغتيال الرحيل للروائية باسلة الصبيحي

شارك

رواية اغتيال الرحيل

للروائية باسلة الصبيحي

 

أ. رائد محمد الحواري

 

من الطبيعي أن يتناول الأديب الواقع الذي يعيشه، فالأدب يعد أحد الوسائل التي تعكس صورة الواقع، هذا ما نجده في العديد من الإبداعات العالمية من ملحمة جلجامش وحتى هذه الرواية التي تتحدث عن معاناة المواطن العربي أثناء هجرته من وطنه وما يعانيه من ألم أثناء الهجرة وبعدها.

مكان وزمن الأحداث

إذن نحن أمام رواية تتحدث عن الهجرة والحالة النفسية التي مرّت بها “هويام” من بداية رحلتها إلى تركيا مرورا باليونان وحتى وصولها إلى بلد ما لم تحدده الرواية، والساردة تحدد زمن الأحداث الرواية: “هل سيكون خريف أيلول 2010 هو محطة خذلان جديدة في مدينة جديدة بعيد عن وطني؟” ص51، رغم أن المكان الذي تركته “هويام” هو مكان في الشرق العربي إلا أننا يمكننا أخذ معاناتها إلى الخريف العربي الذي أجبر العديد من المواطنين في المنطقة العربية على الهجرة من وطنهم والتوجه إلى (الفردوس المفقود). 

الهجرة والمكان

الهجرة أصعب فعل يقدم عليه الإنسان، لما فيه من معاناة نفسية وجسدية ومالية وجغرافية واجتماعية، في رواية “اغتيال لرحيل” نجد كل أشكال المعاناة التي يمر بها المهاجر، حيث تبدأ من مغادرة المكان: “كنت أريد أن آخذ بعض ما بقى لي في بيتي القديم، كانت تراودني نفسي أن أجلس وأتكلم معه، وكنت أصر على أن لا وقت للندم، رغم حنيني للمكان، للجدران، للباب، للشارع، للطفل الذي كنت أتوهم وجوده، لم أدرك حجم مصيبتي في عالم الحب والأنوثة والأمومة سوى الآن” ص66، إذا ما توقفنا عند هذا المقطع نجد وكأن هناك عملية (سلخ/ قطع) تحدث بين المهاجر وبين المكان والناس وماضيه، وهنا تكمن صعوبة وهول الهجرة على من يقوم بها، وبما أن المهاجرة امرأة فهذا يجعلها أكثر، لما فيها من رقة وعاطفة، وإذا ما أضفنا أنها كاتبة وفنانة، أي أنها تمتلك مشاعر مرهفة وحساسية، وأنها تتأثر بأي شيء، نعلم حجم ما مرّت به من ألم.

المكان بقي حاضرا في “هويام” حتى بعد أن وصلت إلى الفردوس في الغرب: “وأني أشعر بأن روحي أصبحت كبلدة مهجورة … كنت أمضي دون وعي من العتمة التي كنت أخافها إلى الساحات المضيئة قبل الخروج إلى البلاد البعيدة” ص147، نلاحظ أن الساردة تذكر المكان/الجغرافيا: “كبلدة مهجورة، الساحات، البلاد البعيدة” وهذا يأخذنا إلى العقل الباطن الذي ما زال محتفظا بأثر المكان، واللافت في هذا المقطع استخدامها صيغة المؤنث، “كبلدة مهجورة” كتأكيد بأنها أنثى وأن ألم الفقد الذي يحمله المهاجر  يبقى عالقا فيه مهما ابتعد جغرافيا وزمانيا عن مكانه الأصيل.

من هنا نجدها تفكر بهذه الطريقة: “كنت أظن أن الأمكنة قد تصبح أكثر ألفة مع مرور الزمن فيها … تعبت إلى حد كبير، بدأت أفكر أن أرحل عن المكان وأترك هذا الأمان الذي سعيت إليه” ص71، وهذا ما يجعلنا نقول أن الهجرة أصعب فعل يقوم به الإنسان، وعليه أن لا يغادر وهو مكره مهما كانت الظروف، هذا ما وجدناه في روايات عائد إلى حيفا، والحفيدة الأمريكية، واغتيال الرحيل.

وتختم رؤيتها للهجرة بهذا المقطع: “قالت هل من الممكن أن تذكرينها ويعود بك الشوق ثانية إلى هنا، نعم سأعود، فانتماء روحي سيقودني إلى كل شيء راقص نظري وداعب خلجات روحي، إلى كل شيء استوطن كياني، أنا أشتاق، ولن أتذمر من مكان تناولت فيه كأس شاي ولا شجرة كسرت ظلها على وجنتاي، لن أتذمر من رصيف جلست عليه بكل ما بي” ص59و60، بهذه الخاتمة تدعونا الساردة إلى الثبات والبقاء في الوطن، وإذا ما كانت هناك مغادرة له، فيجب أن تكون مؤقتة/ قصيرة وليست هجرة دائمة. 

الحالة النفسية 

من هنا سنتوقف قليلا عند الحالة النفسية التي مرت بها “هويام” والمحطات  الصعبة التي ذكرتها في الرواية: “لا تجمّلي الأشياء وتخففي من عبئها، الوحدة، الجدران، الغربة، الشوارع، مسؤولية الحرب داخل روحي، الفراغ، العدم، الأمومة، الأنثى، المتمرد على الألم، …نزيف الأيام، الوقت الصاعق، العمر الذي يجبرني على أن لا أغفو دون الخوف، …لفظتني السعادة بكل قوتها، رمتني من أعلى الجبل إلى أسفل قاع الأرض.. أحس أن في حلقي جرح فلا استطيع الكلام” ص57، اللافت في هذا الكلام أنه صادر عن أنثى من المنطقة العربية، بمعنى أنها تتحدث عن أنثى تعيش حالتين من القمع، قمع السلطة/النظام وقمع المجتمع، من هنا نجد العديد من الألفاظ القاسية التي تؤكد حالة البؤس التي تمر بها.

 الساردة تكشف شيئا من هويتها ككاتبة وكفنانة تشكيلية، من هنا نجدها تعبر عن معاناتها بصورة أدبية لافتة: “أنا من استوطن الخريف بي وأسدل الشتاء على وجهي ونثر طقوس ألمي كالأشجار الصفراء” ص60، في هذا المقطع كانت تدرك الساردة كونها كاتبة، فارتأت أن تقدم الألم بهذه الصورة الجميلة، لتخفف شيئا على القارئ الذي بالتأكد يتأثر بما يقرأ. 

الحكم

بما أن الشخصية المركزية في الرواية “هويام”  كاتبة وفنانة، فهذا يشير إلى ثقافتها العالية، من هنا نجدها تستخدم بعض للحكم، تقول: “الصمت هوان في حضرة الحق، والحياد ذل في حضرة الحقيقة” ص16، وهذا يمثل دافع للمتلقي لكي لا يكون ساكنا/ خاملا أمام ما يجري، وعليه أن يتحرك/ يتمرد على واقعه. تحثنا الساردة على الثورة، على التمرد بقولها: “الموت لا يرعب الموتى” ص31، من هنا نقول إن خلاصة فكرتها تكمن في التحرك نحو التغيير وعدم البقاء في المنطقة الوسطى، المنطقة الساكنة والمستكينة: “المدينة التي يمكنها أن تطعم جائع قد لا تداوي قلبا مجروحا” ص72، هنا، تتناول السارد فكرة الشبع الروحي وليس الشبع المادي، بمعنى أنها تتحدث عن حاجتها وجوعها للكرامة، للحب، للحرية: “الانكسار يهبك قدرة على تجاوز ما يؤلمك ويخونك ويقض مضاجع روحك” ص74، اللافت في هذه الحكمة أنها تتحدث عمن (يجاري) الواقع، تكشف الساردة حقيقة هذه المجاراة بوجود ألم روحي/ نفسي يبقى بحاجة إلى علاج.

  السرد الروائي

لا شك أن فكرة الرواية ومضمونها ولغتها كانت رائعة ومشوقة، وهذا يحسب لها، لكن هناك تداخل وتشابك في لغة السرد يكاد أن يكون عاما، فهناك أكثر من موضع تم فيها هذا التداخل، وهو تداخل يحاول التعبير عن حجم التشظّي النفسي الذي تعيشه شخصية هويام، والذي يصل حدّ الانفصام، فأحيانا نجد السرد الخارجي/العليم، وفجأة  يصير بصوت أنا السارد، من هنا سنأخذ نماذج لهذا التداخل لتوضح التداخل في السرد الروائي: “إلا أنها شعرت بصدى الصوت المنبعث وكأنه الأمل، دخل ذاك الشخص أصفر اللون متوسط القامة لا يتكلم العربي إلا بمفردات قليلة، حين وقف أمامي وبدا يتحدث وكأنه يتحدث اللهجة التركية، وثائر ينظر إليه بشعف” ص 24، نلاحظ أن السرد كان من خلال السارد الخارجي/ العليم لكنه تحوّل إلى أنا السارد.

“تفاجأت هويام بمغادرة نورمان، فكرت أنها ربما لم تستوعب ما قالت، الذنب ذنبي، لماذا أتحدث؟ أليس الصمت أفضل بكثير مما حدث الآن؟ ابتسمت بحرقة وصمتت، فالصمت والبحث عن هويام الحقيقة من جديد أفضل طريقة للعودة للتوان” ص58، وهنا أيضا نجد تداخل في صيغ السرد .

ولم يقتصر الأمر على تداخل السرد بل هناك (ازدواجية في تناول الشخصيات) هذا المقطع يوضح ذلك: ” في المرة الأولى كنا سوية وفي المرة الثانية رحلت وحدها إلى المجهول، وأنا وحدي هنا في الشوارع الغريبة عن كل ما كانت هويام تعشق وتحب، سألتها هل تأقلمت على غياب هويام، لا هويام نصفي الآخر حتى لو كانت ترفضني، ولكن أنا لست مذنبة، الأحداث لم تكن مسالمة للتعامل معها بود ولطف كما كانت ترغب هويام، لست يائسة، كل يوم أشعر بأنها ستطرق الباب وتقول أنني عدت فتعالي نتصالح ونطوي صفحة الفراق” ص118، وتم الحديث عن ثنائية الشخصيات في الصفحات 148: “هويام الحقيقية تهرب من هويام المتمردة، ولا تتجرأ أن تلقي بها حتى لو لمواجهة همام”، وجاءت الثنائية أيضا في صفحة 152 بهذا الشكل: ” كنت على خلاف كبير ما بيني وبينك فانتزعت نفسي منك وعشنا في جسد واحد كروحين متصارعتين، واحدة عنيدة ومشاكسة ومتمردة والأخرى عكسها تماماـ اختلفت والنفوس والأهداف التي أرادت كل واحدة منا أن تحيا من أجلها” هذا التوضيح يريح القارئ ويجعله (يستوعب) ما يجري من أحداث في الرواية، كما أن هذه المقطع يؤكد حالة الصراع النفسي التي مرت بها “هويام” مما يجعل رواية “اغتيال الرحيل” رواية نفسية.

الرواية من منشورات دار مرايا للطباعة والنشر، إربد، الأردن، الطبعة الأولى2023.   

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى