المعادلة الصفرية مع الكيان الصهيوني و خيبة الردع المهدور في غزة
المعادلة الصفرية مع الكيان الصهيوني وخيبة الردع المهدور في غزة
أ. نسيم قبها
لم يكن غريبًا أن تتجاوز جرائم دولة الإحتلال الصهيوني ورعونتها، كل ما يتخيله العقل من همجية ووحشية وافتراس على أهل فلسطين في غزة والضفة . وليس غريبًا أن يساندها الغربُ الرسمي كذلك .
لقد ركز بايدن في كلمته أثناء زيارته ( لإسرائيل) قبل أيام على رفع معنويات الكيان الصهيوني وسكانه على وجه الخصوص، بعد أن انهارت تمامًا على يد كتائب القسام بشكل صادم . وركز أيضًا على تحذير أهل المنطقة الذين توحدت كلمتهم في مواجهة الصهيونازية ، من المساس (بإسرائيل) باعتبار أنها تمثل الغرب المستعمر، وأن المساس بها مساس بالغرب نفسه. كما تنطوي كلمته على عزم الولايات المتحدة على اقتياد الفلسطينيين إلى التنازل عن فلسطين تحت عنوان حل الدولتين المُضلل والذي شدد عليه أثناء حديثه. وتنطوي كلمته كذلك على رسالة لنتنياهو واليمين الديني الصهيوني على ضرورة الاستجابة لمتطلبات “السلام” والتطبيع . وهذا ما دعا بعض الصحف الإسرائيلية إلى تفسير الدعم والإشراف الأميركي المباشر على العمليات العسكرية، وحضور وزير الدفاع لويد أوستن ووزير الخارجية بلنكين والرئيس بايدن شخصيًا في مجلس الحرب، بأنه من أجل ضمان المصالح الأميركية؛ أي لضبط مسار الكيان الغاصب على إيقاع المشروع الأميركي في المنطقة، والذي يُديم سبات أهل المنطقة للمدى البعيد عبر الاستسلام المتنكر بهيئة سلام وتطبيع، كما حرص بايدن في زيارته على تأييد الانتقام الصهيوني الوحشي من أهل غزة لتفريغ مفهوم المقاومة من مفاعيله في الوعي والواقع، وترميم صورة الردع، واستعادة القيمة الاستراتيجية للكيان الذي بدا كمحمية أمريكية في المنطقة.
فالولايات المتحدة وإن كانت حريصة كل الحرص على الكيان باعتبار أن الاعتداء عليه هو اعتداءٌ عليها، وأن الدفاعَ عنه هو دفاعٌ عن نفسها ومعسكرها الغربي، ومن ثم الدفاع عن مركزيتها في الموقف الدولي. لكنها وجدت أن عملية طوفان الأقصى قد أعادت المعادلة الصفرية الوجودية الضاغطة على إسرائيل وأمنها، فاستغلتها من أجل تحجيم قوة المقاومة بالقدر الذي يشل قدرتها على التهديد الوجودي للكيان على أقل تقدير. كما استغلت العملية لتعريض نتنياهو وفريقه الصهيوني الديني للسخط الداخلي وإسقاطه أو انتزاع تنازلات منه لصالح المسار الإبراهيمي وفق رؤية بايدن وإدارته بعدما قام بايدن بخبث في عناق نتنياهو بنصف عناق بارد . فأمريكا تستغل الحالة هذه بوجود ما يسمى بمحور المقاومة الوظيفي لاحتواء الكيان الصهيوني وتوجيه إرادته.
ونظرًا لعدم امتلاك المقاومة سوى أدوات ردع غير متكافئة مع الكيان الصهيوني، فقد كانت تُستغل عملياتُها لتشكيل ضغطٍ لصالح الحلول السياسية المطروحة، ومن ذلك استغلال عملياتها في التأثير على شعبية القوى السياسية الإسرائيلية، وتَرويض الكيان الصهيوني وجلبه إلى طاولة المفاوضات التي يقودها مقاولوا المشروع الأمريكي وموظفيه في المنطقة. ولذلك فإنَّ الولايات المتحدة ورجالاتها رغم دعمهم للكيان المحتل وعدائهم للمقاومة، لكنهم يستثمرون في نتائج تضحيات المقاومة الفلسطينية ويُجيرونها في العملية “السلمية” ، لصالح الحلول المنتظرة أمريكيا . ولا شك أن القبول بكيان فلسطيني على حدود 1967 يستلزم الاعتراف بحق إسرائيل في باقي فلسطين، وهذه تصفية للقضية وفق الرؤية الأميركية التي ما تزال تفاصيلها ملتبسة ومتقلبة بصورة حارَ معها عملاء أميركا أنفُسُهم. والأخطر من ذلك هو ربط الحكام بمن فيهم أردوغان أمن الكيان الصهيوني المجرم بإقامة “دولة” فلسطينية على حدود سنة 1967؛ أي أن مهمة هذه الدولة الفلسطينية تشريع دولة الكيان اللقيط، وهو ما يُفهم بوضوح من تصريحات الزعماء العرب، ومن لسان الرئيس المصري أثناء لقائه الصحفي مع المستشار الألماني.
إن العمل على خطة التهجير الصهيونية، والتي وجدتها ( إسرائيل) في هذا الظرف الإقليمي الناتج عن عملية طوفان الأقصى فرصة ذهبية لتنفيذها، تحت ذريعة معاقبة حماس على ما قامت به، كما وجدها نتنياهو سانحة في ظل الرغبة الداخلية العارمة للانتقام، وفي تقاسم منافسيه مسؤولية الحرب معه، فرصة للتخلص من المقاومة في غزة للأبد. غير أن مساعيه لا تزال تصطدم بصمود أهل غزة من جهة، وتصطدم بالرؤية الأميركية لحل الدولتين المعلن وبمواقف كل من مصر والأردن اللتين تتوجسان خيفة من مشروع التهجير وتداعياته الأمنية عليهما؛ ولذلك تمترس الملك عبدالله وعبد الفتاح السيسي في اجتماع القاهرة بحل الدولتين وشددا عليه، وهو ما يعكس الموقف الأميركي المزدوج، الداعم لأمن إسرائيل من جهة والضاغط على نتنياهو بعدم المضي قدمًا بشأن التهجير وتوسيع رقعة الحرب من جهة أخرى. ولذا فليس من المتوقع أن تؤول العمليات العسكرية التي تستهدف المدنيين والمنازل بقصفٍ مركز، وبخاصة في المنطقة الشمالية من القطاع وفي المناطق المكتظة بالسكان كحي الشجاعية، إلى تهجير أهل غزة إلى سيناء، وإنما ستُفضي إلى تشريدهم إلى جنوب القطاع، وتمهد الطريق لعملية برية محدودة بهدف القضاء على المقاومة، وتحطيم قدرتها القتالية (وهو أمر بالغ الصعوبة)، وتقويض سلطة حماس في غزة لصالح التوقيع على الحل الأمريكي.
إن هذه الصيغة تتقاطع في الجانب الأمني مع التوجه الأميركي، ولا تتعارض مع الموقف الأميركي من سيادة إسرائيل على أراضي فلسطين كلها مع وجود إدارة مدنية للفلسطينيين في الضفة والقطاع تحت عنوان الدولتين. ولا سيما وأن إسرائيل وأميركا والدول العربية يدركون بأن مزيدًا من التهجير للفلسطينيين خارج حدود الضفة والقطاع صعب التنفيذ، وله تداعيات على العملية “السلمية” والمسار الإبراهيمي برمته. وقد أشار بايدن إلى عدم مباركته لاحتلال غزة بقوله إن الاحتلال الإسرائيلي لغزة سيكون “خطأ كبيرًا”، مضيفًا أنه لا بد من القضاء على حماس، ولكن لا بد من إيجاد طريق إلى الدولة الفلسطينية. فيما قال جاك سوليفان مستشار الأمن القومي في رده على سؤال عن حقوق اللاجئين من غزة: “نحن نركز الآن على نقلهم إلى مناطق آمنة، ليس في شمال غزة، بل في جنوب غزة” و”عندما يغادر الناس منازلهم أثناء الصراع، … فإنهم يستحقون حق العودة إلى تلك المنازل. وهذا الوضع لا يختلف”. ولذلك يحاول نتنياهو ترويع أهل غزة بالمجازر وتدمير المربعات السكنية وتشريد سكانها لضرب الحاضنة الشعبية لحماس تمهيدًا لكسرها. غير أنه من المستبعد في ظل صمود أهل غزة وشجاعتهم أن يحقق نتنياهو أهدافه ويقتلع السكان ويقضي على المقاومة حتى لو سوّى غزة بالأرض.
وقد لاحظنا أن بايدن قد ناقش مجلس الحرب حول بدائل التوغل البري في غزة ومدى العملية ومآلاتها، وأن المجلس أخبره بأن عدم التوغل البري يضر بمكانة إسرائيل. ولكن رغم توفر الظروف الضاغطة لوقف الحرب ومنها تململ المواقف الدولية بعد مجزرة المستشفى المعمداني، والضغوط الداخلية على نتنياهو بشأن الأسرى وانتقاده وتحميله مسؤولية الفشل الأمني والسياسي، وحرص بايدن على منع توسع الحرب الذي سيربك الوضع الجيوستراتيجي في المنطقة والعالم، ويعرقل ترتيبات موارد الطاقة في شرق المتوسط وفطم أوروبا عن مصادر الطاقة الروسية، ويقلب أولويات أميركا الخارجية، والتي يعكس الدعم الأوروبي الرغبة بتحويلها من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، ومن ذلك قول ألمانيا أنها ستعطي أولوية السلاح لتل أبيب، وكذلك استغلال روسيا للموقف وشن هجوم عنيف في شرق أوكرانيا لفرض وقائع جديدة لصالحها، إلا أن ذلك كله لا يمنع (بحسب المعطيات ومتطلبات الموقف الإسرائيلي الحرج)، من توغل الجيش الإسرائيلي في مساحة محدودة من غزة مع إمكانية توسيعها بحسب الوضع الميداني، وفرض منطقة أمنية عازلة لتحقيق نصرٍ رخيص الثمن يحفظ لنتنياهو وحكومته وجيشه ماء وجوههم، ويُنقذ نظرية “الجدار الحديدي” التي تأسس عليها الكيان الصهيوني، ويستعيد الردع المهدور تحت نعال القسام، ويُعيد الثقة لسكان الكيان بأن دولتهم آمنة بعد أن فقدوها. وهو الأمر الذي سيرفع كلفة العملية العسكرية على الكيان المجرم ، خاصة بعد سقوط حكومة اليمين الصهيوني التي اصبح سقوطها واقعا لا شك فيه.