عملية طوفان الأقصى و الحل الأميركي بعيد المدى
عملية طوفان الأقصى والحل الأمريكي بعيد المدى
أ. نسيم قبها
من الطبيعي أن “استقرار” الشرق الأوسط هو أحد المصالح الحيوية والاستراتيجية للأمن القومي الأميركي، وذلك لأهمية المنطقة للتفوق الأميركي جيوسياسيًا واقتصاديًا وأمنيًّا. إذ من المعلوم أن الولايات المتحدة دولة رأسمالية، تقوم سياساتها على المصلحة، وحتى عندما تُغلف مواقفها بالقيم الأخلاقية والإنسانية بما فيها الدعوة إلى الديمقراطية والليبرالية، فإنما تفعل ذلك لتحقيق قيمة مادية ومصالح نفعية سياسية واقتصادية وأمنية، تمامًا كمواقفها التي كان ظاهرها مساندة لثورات الربيع العربي، وتبرعها بمائة مليون دولار لغزة أثناء العدوان الهمجي الصهيوني الجاري، ومطالبتها بفتح ممرات إنسانية لإيصال المعونات إلى المنكوبين في غزة. ومثل تدخلها “الإنساني” في الصومال، وانحيازها المزعوم للإيغور في الصين، واهتمامها الانتقائي بحقوق الإنسان، وابتزاز الأنظمة الاستبدادية من خلالها.
والكيان الصهيوني يمثل ركيزة أساسية في الأمن القومي الأميركي، كقاعدة عسكرية متقدمة في البلاد الإسلامية والمنطقة. لمواجهة التحديات الأمنية التي قد تنجم عن أهل المنطقة بعد أن عالجت التحديات الاستعمارية الدولية، وهيمنت على الشرق الأوسط، وتفردت بالموقف الدولي. ولذلك تحرص أميركا على دعم تفوق (إسرائيل) عسكريًّا واقتصاديًّا، من أجل السيطرة على المنطقة، وتمكينها من القيام بمهمتها الوظيفية من جهة أخرى، وفي هذا الصدد يقول هرتزل عن الدور الوظيفي لدولة ( إسرائيل ) في زمن تحكم الأوروبيين بالموقف الدولي: “دولة يهودية في فلسطين باعتبارها موقعًا أوروبيًّا، وجزءًا من جدار الدفاع ضد آسيا، وناقلًا للثقافة الأوروبية إلى الشرق؛ دولة تخدم المصالح الأوروبية ويحميها الأوروبيون”. وهذا ما تبنته أميركا منذ وعد بلفور وورثته عن بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وكما هو معلوم فإن أمن أنظمة الشرق الأوسط، ومنطقة الخليج بالذات (مصدر الطاقة المهم) على المستوى الاستراتيجي بعيد المدى هو أحد أهم أعمدة الأمن القومي الأميركي وزعامة أميركا السياسية وتفوقها الاقتصادي في العالم. ولهذا تمثل إسرائيل منصة الدفاع عن المصالح والقيم الغربية في المنطقة، ويعتبر الاعتداء عليها وتهديد وجودها هو اعتداء على الولايات المتحدة والدول الغربية أنفسهم. وهذا ما يفسر التواطؤ الغربي الفاضح على جرائم إسرائيل، ويفسر قول قادة إسرائيل وقول نتنياهو في لقائه الصحفي مع ماكرون، بأنهم يخوضون حربًا للدفاع عن قيم العالم الحر وحضارته. ومن ثم فلا غرابة من إرسال حاملات الطائرات الأميركية والبوارج البريطانية والأسلحة الألمانية إلى المنطقة، وأن ينطلق موكب حجيج الزعماء الغربيين إلى إسرائيل كلما تعرضت لأذى، نحو زيارة كلٍّ من بايدن وإدارته، والمستشار الألماني، ورئيس الوزراء البريطاني، والرئيس الفرنسي، ورئيسة وزراء إيطاليا، ورئيسة المفوضية الأوروبية. وأما غياب منسق السياسات الأوروبية جوزيب بوريل من الزيارات فلأنه نشر مقالًا في موقع “Project Syndicate” قال فيه: إن “التطرف يتصاعد على كلا الجانبين” في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. وهو ما دعا وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين، إلى اتهامه أنه ساوى “ضحايا الإرهاب الإسرائيليين بالإرهابيين الفلسطينيين”!! فيما عقب مسؤول دبلوماسي إسرائيلي لشبكة CNN بقوله: “لا نعتقد أن هناك سببًا لزيارة رسمية من قبل بوريل لإسرائيل في الوقت الحالي”.
ومهما يكن من أمر فلا بد قبل الحديث عما بعد عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين أول/أكتوبر من إلقاء الضوء على المعادلة السياسية للعملية “السلمية” قبل 7 تشرين أول/أكتوبر. والتي يمكن اختصارها بما ذكره وزير خارجية أميركا الأسبق بومبيو في كتابه “لا تعط بوصة” حول الاتفاقات الإبراهيمية حيث قال إنها لم تكن لتحصل لولا وجود الخطر الإيراني الذي قسم المنطقة إلى معسكرين: معسكر سلام وهي الدول العربية ومعسكر الشر وهما إيران والقاعدة. وترتب على ذلك تجاوز الرؤية التقليدية لمشكلة الشرق الأوسط باعتبار أنها قضية صراع عربي إسرائيلي لتصبح صراعًا بين معسكرين، وهو ما يُمكّن من دفع قطار التطبيع قبل حل قضية فلسطين، باعتبار أننا لو سرنا على قاعدة “إذا أردت أن تنتظر الخيار الأفضل فإنه لن يأتي”. وهذا لا يدل على تغيّر استراتيجي أميركي جوهري حيال حل الدولتين الملغوم، بل يعبر عن تغيير في التكتيك؛ أي تهميش المسار الفلسطيني لصالح الحل الإقليمي (صفقة ترمب). ويترتب على ذلك إطلاق يد نتنياهو لفرض وقائع تجعل من الدولة الفلسطينية المزعومة مجرد صفة للبلديات التي تديرها السلطة الفلسطينية، دون الاعتراف الإسرائيلي بها.
وأما موقف نتنياهو وحكومته من العملية السياسية التي تقودها الولايات المتحدة فيمكن اختصاره من خلال كلمته التي ألقاها أواخر العام الماضي، أمام الاجتماع السنوي لـ«الائتلاف اليهودي للحزب الجمهوري» في الولايات المتحدة، حيث قال: «كنت محظوظًا بشكل استثنائي للعمل مع إدارة أميركية بقيادة الرئيس دونالد ترمب، الذي وافق على سياستنا، وقد أدى ذلك إلى 4 اتفاقيات تطبيع” وأضاف: “هذا الأمر حصل لأنّنا تجاوزنا الفلسطينيين”. ويمكن الوقوف على رؤيته السياسية أيضًا من خلال قوله أمام لجنة الشؤون الخارجية والدفاع في الكنيست كما ورد في وسائل الإعلام الإسرائيلية في 26 حزيران/يونيو: “نحن بحاجة إلى القضاء على تطلعات [الفلسطينيين] في إقامة دولة”. ومن خلال تشديده في خطابه خلال الدورة الـ78 للجمعية العامة للأمم المتحدة (قبل شهر) على أنه: “يجب ألا نعطي الفلسطينيين حق النقض على معاهدات السلام الجديدة مع الدول العربية”. مضيقًا: “إن جهود إسرائيل الماضية باءت بالفشل؛ لأنها استندت إلى فكرة خاطئة مفادها أنه ما لم نتوصل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، فإن أي دولة عربية أخرى لن تطبع علاقاتها مع إسرائيل”، وهو ما يدل على إصراره على حل الدولة اليهودية الواحدة، وعلى تباين حقيقي بين الرؤية الأميركية وبين رؤية نتنياهو وحكومته المتطرفة التي وقعت على وثيقة تتضمن الأسسَ التي بني عليها الائتلاف الحكومي، وتنص على أن للشعب اليهودي حقًا خالصًا غير قابل للجدل على أرض إسرائيل، وأن الحكومة ستعمل على تطوير الاستيطان وتعزيز هجرة اليهود إلى إسرائيل. بينما ترى إدارة بايدن أن نجاح النهج الإبراهيمي يتطلب التحوط لرؤية نتنياهو واليمين الصهيوني الديني الذي يخطط لإلغاء قضية فلسطين تمامًا، وتهجير الفلسطينيين في الوقت المناسب. ولذلك سحبت إدارة بايدن ما وُصف بأنه (شيك على بياض) أُعطي لنتنياهو من قِبل إدارة ترمب، وسعت إلى إسقاطه ودعم منافسيه، وقامت بتثبيت حل الدولتين الملغوم في استراتيجية الأمن القومي الأميركي. والتي تهدف إلى تثبيت الوضع القائم في أراضي الضفة الغربية والقدس والمقدسات، ومنع إسرائيل من التوغل بمزيد من المستوطنات وبخاصة في عمق الضفة الغربية، ومنع إسرائيل من تنفيذ حل الدولة الواحدة، ومحاولة انتزاع اعتراف بصفة “الدولة” للسلطة الفلسطينية القائمة على الأرض إذا تغيرت الظروف الإسرائيلية الداخلية. ولهذا السبب تستغل أميركا كل ما يثير هلع الرأي العام الإسرائيلي لربط أمن الكيان بتحقيق السلام على أساس حل الدولتين آنف الذكر.
أما بخصوص عملية “طوفان الأقصى” ومجريات العدوان على غزة ومآلاتها، فرغم ثقل تداعياتها الكارثية على غزة، ورغم ترصد الولايات المتحدة وعملائها لجني نتائجها لصالح المسار السياسي، إلا أنها حققت أهم أهدافها، إذ كسرت نظرية الجدار الحديدي ووهم الجيش الذي لا يُقهر، وقذفت الرعب في قلوب الصهاينة وأسقطت هيبة الكيان المجرم، وعرقلت مساعي التهويد المتسارع للأقصى والضفة الغربية، وعمقت الهوة بين أهل المنطقة وحكامهم، وأحدثت هزة من النوع الذي يوقظ مشاعر الأمة ويؤججها ويوحدها ويثير التفكير فيها، كما أُبرزت العملية الفارق القيمي الشاسع بين ثقافة أهل المنطقة وأخلاقهم ، وبين العالم الرأسمالي الجشع ، وأعادت الاعتبار للتوجه المبدئي الذي عملوا على تشويهه بأسداس الحلول.
وأما على الجانب الصهيوني، فقد نقلت صحيفة “هآرتس” العبرية، الاثنين 23 تشرين أول/أكتوبر، أن جيش الاحتلال أبلغ رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن أهداف الحرب تتطلب عملية برية بقطاع غزة، حتى على حساب سقوط قتلى في صفوفه”. وأشارت إلى أن “المستوى السياسي في دولة الاحتلال سبق ووجه الجيش بتدمير القدرات العسكرية والسلطوية لحماس وخلق واقع أمني جديد في القطاع”.
وقد مضى نحو ثلاثة أسابيع على الحملة الجوية الإسرائيلية الإجرامية على غزة وأهلها، واتُخذ القرار باجتياحها بريًّا، دون أن يُنفذ حتى الساعة. وهو ما يعكس حالة ارتباك وخلافات وتردد وشقوق في جدار الحكومة الإسرائيلية ومجلس الحرب بشأن الاجتياح البري لغزة بسبب المحاذير العسكرية الميدانية، والتداعيات السياسية الداخلية والخارجية. وفي هذا السياق قال رئيس دولة الاحتلال إسحاق هيرتسوغ: “ملتزمون بالقضاء على أعدائنا لكن الوضع معقد وحساس”. فبعد أن أثبتت عملية القسام أن التفوق العسكري الإسرائيلي، ومسار التطبيع لن يُخمدا جذوة الصراع، تكثف الحراك السياسي العربي، الذي يعبر عن الموقف الأميركي وبخاصة في قمة القاهرة، بهدف إرسال رسالة للكيان الصهيوني مفادها أن تجريد معادلة الصراع من ورقة المقاومة بصورة كلية هو أمر مستحيل، وأن حماس إنما هي تعبير عن حالة وإرادة أهل فلسطين وظهيرها الشعبي في العالم الإسلامي وأن سحقها لن يلغي القضية، وأنه لن يتمكن من القفز عن قضية فلسطين حتى لو تواطؤوا معه على الحل الإقليمي والنهج الإبراهيمي وحيَّدوا المسار الفلسطيني من طريق التطبيع وتحالفوا معه، ولن يتمكن من الانتقال إلى الخطوة التالية، وهي ضم الضفة الغربية وغور الأردن وتهجير الفلسطينيين وفرضه كأمر واقع. وذلك لأن إنهاء قضية فلسطين وفق الرؤية الأميركية المعلنة هو حجر الزاوية في إنهاء ما يسمى بـ”الصراع العربي الإسرائيلي”، وفي استقرار المنطقة بما فيه أمن الكيان الصهيوني ذاته، وهو الأمر الذي يستلزم عدول إسرائيل عن ضم الضفة ووقف تمدد المستوطنات، والاعتراف بـ”الدولة الفلسطينية”، حتى وإن كانت على شكل بلدية تحت عنوان (دولة فلسطين) . ومن الملاحظ أيضًا أن الموقف الأميركي يتسم بمسار مزدوج، فهي تدعم إسرائيل في العلن، لكنها تضغط على حكومتها في الخفاء بوسائل مختلفة كالتأثير في تقلب الرأي العام العالمي، ومن خلال ضغط أمين عام الأمم المتحدة الذي ارتفعت الأصوات الإسرائيلية المطالبة بإقالته، ونحو الضغط الدولي كمطالبة البرازيل بإنهاء العنف بغزة ووقف إطلاق النار وتوفير ممرات إنسانية والعمل على حل الدولتين، ووقف كل أنشطة إسرائيل الاستيطانية بما في ذلك القدس الشرقية. ومن ذلك أيضا تخويف الكيان الصهيوني من تدخل إيران وحزب الله في الحرب؛ لثنيه عن التوسع في الاجتياح البري، كما وتضغط عبر مواقف الحكام العرب الذين طالبوا يوم الثلاثاء الماضي على ألسنة وزراء الخارجية بوقف الحرب، ولا سيما وأن إدارة بايدن لا تثق بنوايا نتنياهو وفريقه المتطرف، ويمكن قراءة ذلك في الإشراف الأميركي المباشر على الحرب، وبين سطور تصريحات بايدن حول “احتلال غزة” وتصريحات المسؤولين الأميركيين، ومن ضمنها قول جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، إن واشنطن تتحدث مع إسرائيل منذ بداية الصراع “للتأكد من نواياها واستراتيجيتها وأهدافها”. وقول مسؤول دفاعي أميركي، إن وزير الدفاع لويد أوستن شدد خلال عديد المكالمات الهاتفية مع نظيره الإسرائيلي على ضرورة الاستعداد للتأثيرات غير المباشرة للهجوم البري، التي تتضمن مخاطر اتساع نطاق الصراع في المنطقة ومصير المحتجزين والأزمة الإنسانية. ولذلك بات موقف نتنياهو في هذه العملية محكومًا بخيارات صعبة ومقامرة غير مضمونة العواقب العسكرية والسياسية، لا سيما في ظل الاتهامات والتسريبات المتبادلة على مستوى القيادات السياسية والأمنية والعسكرية. ومن الممكن أن يُسمح بتوغل الجيش الإسرائيلي في مساحات محدودة لمعالجة مسألة الردع وقواعد الاشتباك التي خرقتها كتائب القسام، وتغيير البيئة الأمنية، ورفع كلفة “طوفان الأقصى” على أهل غزة وفلسطين عمومًا عبر المجازر الهستيرية التي تنطوي على رسالة ردع لحزب الله اللبناني وأهل المنطقة. ومن المرجح أن يستمر نتنياهو (إن لم يسقط) بسياسة التذرع بوجود كيان “إرهابي” على الجانب الفلسطيني لمنع قيام “دولة فلسطينية” (وهو ما صرَّح به سابقًا) ما دام عاجزًا عن تفريغ الضفة وغزة وتهجير سكانها، ولا سيما في ظل الاعتراف الدولي بحقوق الفلسطينيين بدولة على حدود 1967 وفق القرارات الدولية، وفي ظل المصالح الدولية والاستراتيجية الأميركية بعيدة المدى في المنطقة، والتي تأخذ بعين الاعتبار البيئة المحيطة بالقضية والتحديات والتغيرات المتوقعة، وقابلية الحلول للتنفيذ من أجل الوصول إلى نموذج عملي مثالي يضمن مشروعها ومصالحها في الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق لا بد من التفريق بين فرض إسرائيل وقائع على الأرض، وبين اعتراف أميركا بشرعية الوقائع المفروضة. إذ إن أميركا لا تقر بشرعية الوقائع المفروضة وإن كانت تسكت عنها ولا تتخذ منها موقفًا صارمًا ونهائيًّا. وذلك أن الاستراتيجيات تقوم على أهداف ووسائل، والمشكلة التي تعترض الاستراتيجية الأميركية المتعلقة بحل الدولتين، هي أن وسائل تحقيقها في الحالة الإسرائيلية مقيدة بعوامل داخلية وخارجية معقدة وحساسة لا تُمكّن أميركا من تفعيلها كما تُفعّلها مع دول أخرى، مثل وسيلة العقوبات.
ولا بد أيضًا من النظر إلى القضية في بعدها العقدي والإقليمي، إذ لا شك أن لقضية فلسطين تعلقًا بالمنطقة والعالم الإسلامي كله. وبالتالي لها تعلقًا بالتحديات التي تواجه الأمن القومي الأميركي في المنطقة والعالم. وهنا تبرز أهمية حل قضية فلسطين بطريقة قابلة لإحداث استقرار بعيد المدى، بصرف النظر عن حالة الوهن التي تعتري الأمة الإسلامية اليوم. ولعل كتاب ريتشارد نيكسون (الفرصة السانحة) وكتاب نتنياهو (مكان تحت الشمس) وكتاب بيريز (الشرق الأوسط الجديد) يعبرون في هذا الخصوص عن الاستراتيجية الأميركية والاستراتيجية الصهيونية وعن التفكير الاستراتيجي لزعماء أميركا وإسرائيل. والشاهد هنا أن أميركا قد اعترضت المشروع الليكودي الصهيوني للتهجير والذي نشره معهد الأمن القومي والاستراتيجية الصهيونية في تقرير كتبه أمير ويتمان، قائد التجمع التحرري لحزب الليكود على نحو “خطة لإعادة التوطين وإعادة التأهيل النهائي في مصر لجميع سكان غزة”، استنادًا إلى “الفرصة الفريدة والنادرة لإخلاء قطاع غزة بأكمله” والتي أتاحها الهجوم الإسرائيلي الأخير على القطاع.
وبهذا المعنى فإن الولايات المتحدة تحاول ومنذ مجيء بايدن إلى البيت الأبيض، توحيد المقاربات الأميركية والإسرائيلية من خلال “حل الدولتين” الذي جرى التأسيس له على الأرض، والمتمثل بإسرائيل والسلطة الفلسطينية حتى ولو بقيت كذلك ولم يتم إنجازها؛ لأن المطلوب هو تغيير الاسم من سلطة فلسطينية إلى دولة فلسطينية، ومعالجة تمدد المستوطنات في عمق الضفة الغربية، بالإضافة إلى معالجة النزاع على المقدسات. ولكن حكومة اليمين وهيمنة الجانب العقدي على الرأي العام الإسرائيلي، واشتباك عامل الانتخابات الأميركية مع قضايا الشرق الأوسط، ومزايدات الساسة الأميركيين في الدعم المطلق لإسرائيل، كل ذلك يعيق المشروع الأميركي الذي لا تملك معه الولايات المتحدة سوى استغلال الأحداث الجارية، وانقسام القوى السياسية الإسرائيلية؛ للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي وعلى نتنياهو وحكومته المتشددة، تمامًا كما فعلت في حرب تشرين أول/أكتوبر سنة 1973 التي قادت إسرائيل إلى (اتفاقية السلام) مع مصر، وهذا بموازاة السير في تطبيع العلاقة الإسرائيلية مع السعودية باعتبارها جزءًا من مشروع “السلام” بشرط تقديم إسرائيل بعض التنازلات للجانب الفلسطيني، بينما تسعى الحكومة الدينية الصهيونية لتهويد القدس والمقدسات كاملة، والاحتفاظ بالسيادة على الضفة والأغوار، رغم أنها تملك السيادة على الأرض عمليًا، ولكنها تريد ضم تلك الأراضي عبر قرار رسمي، وهي فعليًّا تعطي السلطة الفلسطينية الرعاية المدنية للسكان لقاء التنسيق الأمني ريثما تجد فرصة مواتية لاقتلاع الفلسطينيين من البحر إلى النهر، وقد مهدت لذلك عبر قانون يهودية المواطن عام 2018؛ لتثبيت خيار الدولة الواحدة، بحيث يصبح غير اليهود داخلها ضيوفًا يمكن إخراجهم في الوقت المناسب. وهذا يفرغ العملية “السلمية” من مضمونها. ولذلك تشدد الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين وعملاؤها في المنطقة في لجّة الأحداث الجارية على حل الدولتين، لتثبيته كإطار ومعيار لمعالجة أمن إسرائيل ومشكلة الفلسطينيين، وذلك لكبح اندفاع الكيان الصهيوني في ظل حكومة اليمين المتشدد نحو مخطط التهجير والدولة الواحدة. وبهذا المعنى فإن أميركا تستغل الضربة القاسية التي تلقاها الكيان الصهيوني بعملية طوفان الأقصى في سلسلة أعمالها التي تستهدف نتنياهو واليمين المتشدد، نحو تأجيجها للمظاهرات المناوئة لنتنياهو وحكومته، وهو ما أشار إليه مايكل أورن _أحد المقربين من نتنياهو_ بقوله إن المتظاهرين ضد رئيس الوزراء يتلقون الدعم من الإدارة الأميركية. وهذا بالإضافة إلى ما تناقلته بعض الصحف الغربية حول تمويل الخارجية الأميركية لحركة “الحكومة النوعية في إسرائيل” التي كانت تحشد ضد نتنياهو على مدى السنوات الثلاث الماضية. وذلك لإسقاط نتنياهو لأنه يمثل هو وفريقه الحكومي شديد التطرف العقبة التي تعترض مشروع حل الدولتين. وسبق أن أشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر إلى ذلك بقوله في عام 2013 إن نتنياهو كان عازمًا على فرض “حل الدولة الواحدة”، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل المفاوضات مستحيلة ويقود إلى “كارثة لإسرائيل”.