صحو الوجدان الأفريقي في قصائد الشاعر بحرالدين عبدالله

صحّو الوجدان الأفريقي في قصائد الشاعر بحر الدين عبدالله

أ. بكري حسين عبيد

إلى بيوتنا إلى أعمالنا إلى الشواطئ إلى حقولنا يجب أن نعود
إلى أراضينا المخّمرة بالبن المبيّضة بالقطن
المخضرة بالأرز
يجب أن نعود
إلى أنهارنا وبحيراتنا إلى الجبال والغابات
يجب أن نعود
إلى نضرة شجرة التين إلى أساطيرنا وموسيقانا ونيراننا
يجب أن نعود
إلى الطبول وعزف اليدين وإلى الكرنفال
يجب ان نعود

اغستينو نيتو1922_1979م أنغولا

كما التاريخ يقوم الشعراء والأدباء بتدوين وتوثيق أبرز مشاهد حياة الشعوب في العالم بأسلوب بسيط وجميل وأكثر واقعية، ذلك لأن صدق الكلمة والإحساس هوالمبدأ الأساس في الأمر وهو بيت القصيد.
وكما قيل بأن الأدب مرآة الشعوب وسجلها الحافل بالفن والفكر والثقافة ،وعنوان نهضتها ورقيها وتقدم حضارتها، اضافة إلى ماسبق فإن الشعراء قد قاموا بأدوار كبيرة في شتى مناحي الحياة سلما وتحررا، باسهاماتهم التي لا تكاد تخطئها العين .
كان الشعر سلاحا للمقاومة في كثير من المجتمعات، خاصة في القارة الأفريقية إبان اندلاع الإحتجاجات المنادية بالإستقلال مرورا بقيام حركات التحرر الوطني التي قادها الشعراء والأدباء ،فكان دورهم الدعوة إلى التوحد لمواجة الخطر وتقرير المصير ونيل الإستقلال .حيث انبرا الشعراء بقصائدهم لشحذ الهمم ومواجهة العدو المشترك وقد كان لهم القدح المعلى في انتصارات بلاداهم.
أخذ الشعراء يطوعون شعرهم لخدمة بلادهم وتحقيق تطلعات ورفاهية شعوبهم حسب ماتقتضيه كل مرحلة، حتى قاد هذا المنحي إلى ظهور المدارس الأدبية التي لها بالطبع رسائلها واهدافها نذكر منها على سبيل حركة تجمع الطلاب الأفارقة التي ولدت في فرنسا في عام 1936 وتحولت فيما بعد إلى حركة فكرية أدبية وكان من أبرز روادها ليبولد سنغور وايمي سيزار وقد كان هدف هذه المدرسة الدفاع عن الهوية الأفريقية ومقاومة الإستعمار. أما المثال الآخر هو مدرسة الغابة والصحراء التي ولدت بجامعة الخرطوم عام 1963 حيث أقرت هذه المدرسة بأن التمازج العربي الأفريقي في السودان هو الذي يشكل الأصل في الثقافة السودانية لكن المتابع لحركة الأدب في السودان يلاحظ غيابا للتراث الأفريقي في الأدب السوداني الحديث والذي ركز على التراث العربي متأثرا بالثقافة العربية الإسلامية ما عدا القليل من الشعراء الذين تناولوا هذالموضوع في أشعارهم منهم على سبيل المثال الفيتوري ومحمد سعيد العباسي وآخرين فجاءت تجربة شاعرنا العباسي لتجمع بين الأصالة والمعاصرة فكانت تجربة تجلت فيها قيمه وحبه وحنينه لوطنه. يشترك شاعرنا بحرالدين عبدالله مع العباسي في هذا المنحى، إذ أن غالبية قصائده تحمل نفس الحنين إلى الماضي والأصل والجذوز علاوة على مسحة تصوف ذاتية تفرد بها شاعرنا ونداء للروح الغائبة في مواطن السلام والتسامح. ومع كل هذا التفرد إختار بحر الدين ضرب الشعر الحر لما له من جرس موسيقي ساحر يأثر والوجدان في ساحات الجمال. والمتابع لمسيرة الشاعر الفنية يجد تقاربا حميميا بينه وشاعرنا الكبير الفيتوري فقد كان الأخير جزءًا من الحركة الأدبية العربية المعاصرة، وهو من رواد الشعر الحر الحديث في الوطن العربي .
ولد بحرالدين بمدينة الفاشر أرض النور والحضارة ولعل إختيار اسم بحر الدين أفضل ما يدل على تلكم الأيام المشعة بنور التقابة واللوح والدواية في أرض المحمل . إضافة إلى الدراسات الدينية ودراسات اللغات فإن بحرالدين يحمل درجة الماجستير في الأدب المقارن ويعمل بالترجمة هذا كله إضافة إلى عمله الرسمي مستشارا بوزارة الخارجية السودانية .
بعد دراسته للغات والآداب وعمله بالتدريس الجامعي ثم التحاقه بالعمل الدبلوماسي منح بحر الدين الكثير من وقته للإهتمام بالإنتاج الأدبي في عمر مبكر متخذا طريقا جديدا غير تقليدي ومعاصر. شكل ارتباط بحر الدين بوطنه الصغير وأسرته والحياة الإجتماعية محورا أساسيا في قصائده التي تحتشد بالأمل والحنين والفرح والحزن الكبير والتأمل والمناجاة والحوار الجماعي في البيت الكبير. لذا اختار بحر الدين ضرب الشعر الحر حتى يستطيع مخاطبة مجتمعا عريضا لا تحده القوافي والأوزان .
حملت قصائد الشاعر بحر الدين العديد من المعاني والرسائل المباشرة وغير المباشرة لكل الأجيال وفئات المجتمع لكن يعتبر الوجدان الوطني الهدف الرئيس الذي يدور حوله شاعرنا بدرر الكلام في زمن أصبح إيقاع الشعر فيه سريعا أقرب إلى إيقاع الحياة الرقمية وكانه يريد أن يبعث في الشعر الحر الروح ليعيدنا الى أحضان الوطن والرحاب الأفريقية السمراء.
اعتمد بحر الدين على أسلوب التصوير البسيط والوصف البليغ مستخدما لغة سهلة ومحبوبة بل ومعروفة لدى الكثير من القراء حيث يفتتح قصائده الإستفهام والتعجب تارة وبالنداء تارة أخرى، ثم يغرق في التفاصيل السردية المشوقة ويظهر ذلك جليا في استخدام مفردات غابت عن دفاتر شعراء اليوم وكأنه في حوار بين الماضي والحاضر. أفرد بحر للبيئة الريفية والحياة القروية الأصيلة في كتاباته حيزا كبيرا وكانه يريد أن يكون جسرا بين ماضي إنتهى بعطره وحاضرا يفتقد الكثير إذا أن قصائده تعبث الأمل وتدعو لغد مشرق لأرض ملأها الحزن ثم فاض عليها أسى وحسرة لتأتي كلمات بحر تعلن عن ارهاصات الميلاد بعد التشظي والإنقسام.
أراد شاعرنا أن يعيدنا إلى روحنا الأفريقية وإلى عاداتنا وتقاليدنا وموروثاتنا والإعتزاز بها لهذا نجد أن قصائده قد حفلت بمفرادات كثيرة تذهب في هذا المنحى مثل التاريخ العاج، الأدغال، الموسيقي ،والأساطير والطبول والغابات وصور عديدة وسّمت جيد القصيد عنده .
يقول بحر الدين في قصيدته صبايا الكاكاو :

عاليا عاليا كقلب الجبال
تغرق الشمس في مفاتن مالي
والبحيرات العسجدية تغلي
كضباب في جرحنا المتعالي
ياصبايا الكاكاو حررن بإسمي
ساحل الأغنيات فالمد عالي
ثم غنين لي ببحة سونغاي
كي تشهد السهول ظهر التلال
غن سنغور فسرة الأرض
من قبلك مقطوعة بنهر السنغال
وسلالات من حضارة غانا
ثم تمبكتو يامنار الخيال
يخاطب الشاعر في هذه القصيدة الصبايا العاملات في حقول الكاكاو ويحثهن على رفع صوتهن بالغناء حتى يسمعن في كل مكان في الساحل الأفريقي وما جاوره، ثم يستدعي الشاعر سيرة الأديب الكبير ليبولد سنغور بإعتباره أحد أهم رموز أفريقيا ومؤسس المدرسة الأدبية فيها. ثم يتجه إلى غانا يذكرنا بحضارتها ومنها إلى تمبكتو أول مدينة أفريقية تحتضن جامعة للعلوم في أفريقيا وكأن الشاعر أراد أن يعقد مقارنة بين مدينه الفاشر في عهد السلطان علي دينار ودورها في نشر العلوم الدينية وبدور تمبكتو الكبير في الإشعاع العلمي والحضاري في أفريقيا.
تختزن ذاكرة الشاعر الكثير من الحكم والأقوال الماثورة وقصص التاريخ التي ما ينفك يذكرها بين الفينة والأخرى ويذكر معها جده الذي تشّرب منه الكثير من الحكم والآداب . في هذه القصيدة يتجلى صحو الوجدان الأفريقي لشاعرنا بحر الدين بصورة واضحة ولعل اختياره للكاكاو لرمزيته الأفريقية دليل قوي على ذلك ولهذا فقد حمل ديوانه الأول اسم منحدارت الكاكاو في تأكيد لكل ما سبق.
لم تكن قصيدة صبايا الكاكاو الوحيدة التي عبر فيها شاعرنا عن هواه الأفريقي بل إن معظم قصائده لم تخلو من هذا الإحساس والشعور الكريم . وفي قصيدة للمسافات في جناح الطيور يصرح بحر الدين بتأثره بالشاعر الكبير الفيتوري عندما يقول :
وانا في اللحون محض نقاء
قد تربى على يد الفيتوري
فاحفرو لي مترا من الشعر
واهيلو علي رمل شعوري
إختار الشاعر بحر الدين السير في طريق الأباء والأجداد من الرعيل الأول لرواد حركة الشعر والأدب والفكر في أفريقا ليعيد له بريقه وحضوره بعد سنوات من الإنطفاء والغياب ويرسم بديوانه منحدارات الكاكاو خارطة جديدة للوجدان الأفريقي فى سماء الإبداع الأدبي والفني والثقافي.