من أزمة غزة الى فرصة الدولتين في فلسطين: قراءة في الموقف الأميركي
من أزمة غزة إلى فرصة الدولتين في فلسطين:
قراءة في الموقف الأمريكي
أ. نسيم قبها
ما تزال العملية العسكرية الوحشية في غزة وإطلاق أمريكا ليد ( إسرائيل) لتصفية المقاومة الفلسطينية، وموقفها في دعم “هدنة إنسانية” ورفض احتلال غزة وتهجير الفلسطينيين مطىح تساؤل كبير. والحقيقة رغم ما يبدو من قناعة المؤسسة العسكرية الأميركية باستحالة اجتثاث المقاومة، إلا أنه من منطلق البراغماتية السياسية ولاعتبارات سياسية داخلية، واعتبارات تتعلق بالقيمة الاستراتيجية لإسرائيل في المنطقة، واعتبارات أخرى تعود بالضرر على حكومة نتنياهو وتعمق ضعفها الداخلي وعزلتها الدولية لردعها وضبط سلوكها، أطلقت أميركا لإسرائيل العنان في عدوانها على غزة.
ومع تعنت نتنياهو وإصراره على مساره الوحشي، أضحت مقاربة الولايات المتحدة تشي بأنه إذا تمكنت إسرائيل من القضاء على حماس والمقاومة فيمكن أن يسد ذلك ذريعة إسرائيل بشأن الأمن ويفسح المجال لحل الدولتين على مراحل، من خلال حكومة تكنوقراط انتقالية تقوم بإعادة الإعمار وطي صفحة المقاومة كليًّا، وإجراء انتخابات فلسطينية وتحصيل اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية، وتشكيل رأي عام عالمي ضاغط على إسرائيل للاعتراف بالـ”الدولة الفلسطينية” المُقزَّمة، ولا سيما إذا تمكنت أميركا من إسقاط نتنياهو وإبعاد شركائه المتشددين من الحكومة وتأثيرهم في السياسة الإسرائيلية. وهو ما طالب به زعيم المعارضة يائير لبيد، إذ دعا إلى إقالة نتنياهو قبل أيام محاولًا شق صفوف الليكود عبر اقتراحه تسليم رئاسة الحكومة لشخص آخر من حزب الليكود، والدخول معه في حكومة وحدة وطنية لا يشترك فيها اليمين الديني الصهيوني.
أما نتنياهو فلن يعترف بالدولة الفلسطينية، ويراهن على أن السماح له بالقضاء على المقاومة وإعادة تشكيل السلطة في غزة وتدمير بنيتها التحتية بصورة تجعل القطاع غير قابل للحياة، والتضييق على الفلسطينيين في الضفة الغربية، سيُفضي إلى إنقاذ مستقبله السياسي باعتبار أن هكذا إنجاز يُعتبر نصرًا، وقد يفتح باب هجرة بفعل المعاناة لجزء كبير من الفلسطينيين (وهو ما أفصح عنه سموتريتش مؤخرا). كما يراهن نتنياهو على أن الواقع الذي أحدثه في غزة سيشغل الفلسطينيين لسنوات طويلة في إعادة الإعمار، وترتيب البيت الداخلي المعقد في ظل تباين مواقف وتوجهات القوى السياسية الفلسطينية، آملًا في نفس الوقت في تغير الإدارة الأميركية وعودة ترمب إلى الرئاسة؛ إذ إن إفشال قيام الدولة الفلسطينية هو استراتيجية نتنياهو ضمن خططه المرحلية. وهو ما صرح به عندما برر السماح بالدعم القطري المالي لحماس بقوله: “من يريد منع قيام دولة فلسطينية فعليه أن يدعم حماس”.
أما وقد باتت المقاومة تشكل له تهديدًا وتؤثر في الانتخابات الإسرائيلية في غير صالحه، وبعد أن شكلت عملية طوفان الأقصى تهديدًا وجوديًّا لكيانه ولحزبه ومستقبله، فتحتم سحقها وتحويل أزمته إلى فرصة لفرض واقع جديد ينطوي على محاولة تهجير أكبر عدد ممكن من سكان غزة، ومواصلة المراوغة وكسب الوقت لتفادي السقوط، والتصدي لمشروع حل الدولتين، لا سيما وأن استطلاعات الرأي الأخيرة التي أجرتها صحيفة معاريف الإسرائيلية تكشف عن تراجع قوة حزب الليكود الحاكم إلى 17 مقعدًا في الكنيست، وتزايد قوة حزب الوحدة الوطنية بزعامة بيني غانتس إلى 42 مقعدًا.
ولكن ليس من الممكن أن ينجح نتنياهو باجتثاث المقاومة الفلسطينية في ظل عجز الجيش الواضح عن إحراز تقدم معتبر، وفي ظل فقدان الكيان الصهيوني القدرة على تحمل الكلفة الاقتصادية والأمنية وحرب الاستنزاف فيما إذا احتل غزة بهدف تمشيطها وإنهاء المقاومة وإيجاد بيئة أمنية جديدة في شمال القطاع، ودفع النازحين في الجنوب إلى النزوح مجددًا نحو سيناء على الحدود المصرية.
ومن المرجح أن يواصل نتنياهو الحرب لأطول مدة ممكنة لشراء الوقت بحثًا عن صورة نصر لإنقاذ موقفه، والعودة إلى المربع الأول، وكل ذلك غير مضمون في ظل صمود أهل غزة وشجاعتهم التي لم يسبق له مثيل ، وفي ظل الضغوط الداخلية والخارجية. بل إن من المتوقع أن تقضي هذه الحرب على مستقبله السياسي وأن تعيق عملية التهجير التي تشير المعطيات العسكرية في الضفة الغربية والقطاع على مواصلته السير بها حتى اللحظة. إذ إنه وبعد تهجير سكان شمال غزة بذريعة اجتثاث المقاومة بدأ الحديث عن أن قيادة حماس تتحصن في الجنوب كما ذكر أولمرت مؤخرًا، وبدأ الجيش الإسرائيلي بدعوة سكان أحياء في خان يونس جنوب القطاع بإخلاء منازلهم. وهذا بالإضافة إلى مساعي بن غفير تسليح المستوطنين بشكل غير مسبوق، ومواصلة التصعيد الإسرائيلي في مدن الضفة الغربية عبر المداهمات والقتل والاعتقال، وكذلك الاستفزاز الذي يهدف إلى استدراج تصعيد أوسع يشمل كوادر فتح والذي تمثل بقصف مكاتبها في مخيم بلاطة صباح يوم السبت 18 تشرين الثاني/نوفمبر بعد دعوة بن غفير قبل أيام للتعامل مع الضفة الغربية مثل غزة. بالإضافة إلى استدراج المقاومين في جنين وطولكرم ونابلس لعسكرة العلاقة مع الضفة وتوسيع الحرب وإطالتها لتوفير ظروف التهجير في الضفة الغربية نحو غور الأردن، ولهذا أرسلت الأردن مستشفى ميدانيًا إلى نابلس، بالإضافة إلى المحطتين الجراحيتين في جنين ورام الله تحوطًا لتوسع العملية العسكرية الإسرائيلية، وتفاديًا للحرج ومخاطر نقل الجرحى والمشردين إلى الأردن، وهذا ما يفسر إرسال الجيش الأردني إلى الحدود مع الكيان المجرم، والذي ستقتصر مهمته على صد موجة الهجرة المحتملة .
وأما المسار السياسي على الجانب الفلسطيني والتطبيع الإقليمي، فمن المتوقع أن يراوح مكانه حتى لو وصل لبيد أو بيني غانتس إلى السلطة، إذ إن أقصى ما يمكنهما فعله في ظل الانقسام السياسي والتطرف الشديد للمجتمع الإسرائيلي هو تحريك المفاوضات مع الفلسطينيين، ومعالجة التراجع الاقتصادي، ومعالجة الملف الأمني عبر التهدئة بغرض الاستهلاك الإعلامي، ريثما يتمكنا من تقويض نفوذ التيار الديني الصهيوني في الدولة.
وأما الموقف الأميركي، فيتلخص في خطاب بايدن في السابق أمام جماعة الضغط المؤيدة لإسرائيل “جي ستريت”، حيث قال: “أعتقد اعتقادًا راسخًا أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية على مدى السنوات العديدة الماضية _التوسع المطرد والممنهج للمستوطنات، وإضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية، والاستيلاء على الأراضي_ تحرك إسرائيل في الاتجاه الخاطئ”. مشيرًا إلى “إنهم يدفعوننا نحو واقع الدولة الواحدة، وهذا الواقع خطير”. كما أكد التزام الولايات المتحدة “لدفعهم بأقصى ما نستطيع نحو ما يعرفون في حدسهم أنه الحل النهائي الوحيد، وهو حل الدولتين”، والذي هو “الضامن المطلق لأمنهم” بحسب وصفه. وهو ما شدد عليه وزير الخارجية بلينكن في تصريحات أدلى بها عقب قمة وزراء خارجية دول مجموعة السبع في العاصمة اليابانية طوكيو قبل أيام بقوله: “لكننا واضحون بشأن رفض إعادة الاحتلال، مثلما نحن واضحون بشأن رفض تهجير الفلسطينيين”. وأردف قائلًا: “وكما قلنا من قبل، نحن بحاجة إلى رؤية وحدة الحكم والوصول إليها فعليًا عندما يتعلق الأمر بغزة والضفة الغربية، وفي نهاية المطاف بالدولة الفلسطينية”.
وبالتالي فإن ما تحرص عليه أميركا هو المحافظة على إطار “حل الدولتين” ، واعتراض محاولات نتنياهو توسيع الحرب، أو تهجير أهل غزة والتصعيد في الضفة الغربية والإقليم. ومحاولة ثنيه عن مواصلة المجازر التي أثارت الرأي العام العالمي وألبت الشارع العربي والإسلامي على أنظمة الحكم وعلى الولايات المتحدة، وأحدثت تشققات داخل صفوف الحزب الديمقراطي وباتت تنذر بخسارة بايدن للانتخابات. ولذلك تحاول ممارسة الضغوط بالوكالة عن طريق جوزيب بوريل وبعض الدول الأوروبية (إسبانيا والنرويج وإيرلندا وبلجيكا)، بالإضافة إلى البرازيل وجنوب أفريقيا وجيبوتي وعدد من دول أميركا اللاتينية، واستغلال الموقف الروسي والصيني الداعي لوقف الحرب رغم أنه يهدف إلى تحسين صورتهما في عيون أهل المنطقة.
كما تحاول الضغط على نتنياهو عبر تحويل الإعلام العالمي، ومن ذلك نشر قناة “سي أن أن” بأن إسرائيل “ربما أعادت ترتيب الأسلحة” في مستشفى الشفاء. ونشر قناة بي بي سي تقريرًا يفند المزاعم الإسرائيلية بشأن مجمع الشفاء الطبي، بخلاف موقفها السابق والذي كانت تسوّق فيه الرواية الإسرائيلية. علمًا بأن أميركا هي التي زودت الجيش الإسرائيلي بمعلومات مضللة حول تواجد قيادة حماس في مجمع الشفاء وأوقعت القيادة الإسرائيلية في حرج داخلي وخارجي. وهذا بالإضافة إلى ممارسة أميركا ضغوطًا على نتنياهو من خلال الأمم المتحدة والوكالات الدولية ومجلس الأمن الذي لم تعترض على قراره الأخير بشأن “الهدن الإنسانية الممتدة”، وفتح ممرات إنسانية في كافة مناطق قطاع غزة وإيصال المساعدات لسكانها. وإلى جانب ذلك تحذيرها لنتنياهو بشأن تدمير البنية التحتية في غزة والذي يؤسس لتهجير السكان ويعمق مسار الدولة الواحدة ويقوِّض حل الدولتين المزعوم، بالإضافة إلى استيلاء إسرائيل على غاز سواحل غزة وهو الأمر الذي ألمح إليه نتنياهو قبل أربعة أشهر، والذي تتطلع أميركا إلى ادخاره كمورد مالي للسلطة الفلسطينية لضمان استمرارها. ولذلك فإنه من المتوقع أن تتسع الخلافات بين الإدارة الأميركية وبين نتنياهو، حيث نقلت شبكة (إن بي سي) عن مسؤولين في الإدارة الأميركية أن الخلافات تتزايد بين إدارة الرئيس جو بايدن وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بشأن الهجوم على قطاع غزة وتصور مستقبله السياسي. ونقلت عنهم أن “إقامة منطقة عازلة في غزة يعني تقليص مساحة القطاع، وهو ما نعتبره أمرًا غير مقبول”.
وأما على صعيد توسيع الحرب لتشمل حزب الله وإيران، فقد صرح وزير الخارجية الإيراني في مقابلة مع فاينانشال تايمز البريطانية بأن الاتصالات بين الولايات المتحدة وإيران متواصلة من خلال القسم الأميركي بالسفارة السويسرية في طهران على مدى الأربعين يومًا الماضية.
ويتضح من جملة مؤشرات أن ثمة تفاهمات قد أبرمت بين أميركا وإيران على ضمان عدم انجرارهم إلى الحرب وحرمان نتنياهو من توسيعها، حيث قال وزير الخارجية الإيراني في حديث لشبكة “سي بي إس نيوز” الأميركية “لا نريد إطلاقًا أن يتسع نطاق هذه الأزمة، لكن الولايات المتحدة تزيد من ضراوة الحرب في غزة بدعمها الكبير لإسرائيل”. فيما صرحت بعثة إيران الدائمة لدى الأمم المتحدة لوكالة “رويترز” أن طهران لن تدخل في صراع مباشر مع تل أبيب إلا في حال شنت إسرائيل هجومًا على إيران. ومن تلك المؤشرات على تفاهم الولايات المتحدة وإيران أيضًا هو التزام حزب الله بقواعد اشتباك محدودة مع الكيان الصهيوني، وتوقيع أميركا يوم 14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري على قرار تمديد إعفاء العراق من العقوبات المفروضة على إيران لمدة 120 يومًا لتسديد عائدات الكهرباء المستوردة من إيران. وبحسب موقع “واشنطن فري بيكون” أن الولايات المتحدة قد تسمح للعراق بتحويل 10 مليارات دولار من الأصول الإيرانية المجمدة إلى حسابات إيران في أوروبا وعُمان، من خلال تمديد إعفاء بغداد من الالتزام بالعقوبات على طهران.
وبالتالي فليس من المتوقع أن تبادر إيران أو حزب الله بتوسيع الحرب إلا إذا صعّد نتنياهو من طرفه بشكل يستدعي ردًا إيرانيًا يفضي إلى توسيعها. ومن أبرز المؤشرات على اتخاذ إيران قرارًا بعدم الدخول في الحرب هو إشادة وزير الخارجية الإيراني الأسبق محمد جواد ظريف بزعيم حزب الله والمرشد الأعلى الإيراني على “موقفهما الحكيم بعدم الانضمام إلى الحرب ضد إسرائيل”. مشيرًا إلى أن “إسرائيل تريد جرَّ إيران إلى الحرب، لكن إيران لن تفعل ذلك”. مؤكدًا بأن “دعمنا لحماس لا يشمل القتال إلى جانبها”.
إن قضية فلسطين اليوم في ظل التفرد الأمريكي عالميا أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما : فخيار الكيان الصهيوني الوحيد هو دولة يهودية واحدة، وقد سبق وأن أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيغن بايدن عندما كان بمنصب سيناتور في الكونغرس سنة 1982 بموقف إسرائيل المبدئي من قضية فلسطين بقوله: “إذا طلبت منا في أي وقت أن نتنازل عن مبدأ نؤمن به، في حين نُهَدَدُ بقطع المساعدات، فإننا لن نتخلى عن المبدأ الذي نؤمن به”.
أما الخيار الوحيد للأنظمة العربية فهو دعم (حل الدولتين) المسخ لقاء بقاء أنظمتهم قائمة ، في ظل رؤية أمريكا التي لا يمكنهم الخروج عن طوعها .