الضربات الأميركية على اليمن و تقويض الدوافع البعيدة
الضربات الأمريكية على اليمن وتقويض الدوافع البعيدة
أ. نسيم قبها
بعد إعلان إغلاق “باب المندب” والمياه المحيطة به في وجه السفن المملوكة والمتجهة إلى موانئ دولة الإحتلال من قبل جماعة الحوثي في تشرين ثاني الماضي ، وبعد تنفيذ أكثر من 25 عملية مستهدفة بالمُسيَّرات والصواريخ البالستية الأراضي المحتلة والملاحة التجارية في البحر الأحمر، كان آخرها وأوسعها هجمات أمس الثلاثاء الماضي بـ 18 مسيّرة و3 صواريخ تم اعتراضها من قِبل البوارج الأميركية والبريطانية بحسب المصادر العسكرية الأميركية. فقد أرغمت هجمات الحوثي منذ إطلاقها عديد شركات الملاحة الدولية على تغيير مسارها نحو رأس الرجاء الصالح أو العودة إلى موانئها، وهو ما أثار قلقًا على سلامة الملاحة الدولية، واستدعى من الولايات المتحدة المسارعة لتشكيل تحالف يضم أكثر من ٢٠ بلدًا باسم “حارس الازدهار”، بهدف ردع هجمات الحوثيين وحماية الملاحة في البحر الأحمر، على حد قولهم.
غير أن الدافع الحقيقي لتصدي أميركا لهجمات الحوثيين التي فرضتها مقاربة ما يسمى بمحور المقاومة، والمتمثلة بالتحوط لتداعيات مسار التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني على دورها ومبرر وجودها، هو حرص الولايات المتحدة على احتواء الموقف خشية أن يستغل نتنياهو التدخل الحوثي لتوسيع الحرب وتدويلها، ولا سيما وأن نتنياهو قد توعد بالرد إذا لم تُلجم دول العالم الحوثيين وإيران؛ لما تمثله الملاحة عبر البحر الأحمر من مخاطر على أساطيلها الحربية وعلى سلاسل التوريد العالمية، بعد أن أعلن الحوثيون إبقاء اليمن “جبهة فعَّالة ومؤثرة على الأعداء الصهاينة” طالما استمر العدوان على قطاع غزة.
ذلك أن توسيع الحرب وإطالتها من قِبل نتنياهو ولو بصورة اشتباكات محدودة وسقوف مرتفعة، يخلق أزمة تستدعي مشاركة ودعمًا خارجيًّا أكبرَ، وبخاصة من طرف الولايات المتحدة باعتبار أن حرب المقاومة هي حرب على القيم الغربية والمصالح الأميركية والعالمية. كما أن إطالة الحرب يوفر مناخًا يخفف الضغط الخارجي والداخلي عن نتنياهو في حربه على غزة ويُشجعه على تنفيذ مخططاته المُعَرقِلة للمسار السلمي، ويوفر له فرصة لتوزيع فشله على شركائه الدوليين، تمامًا كتوزيعه مسؤولية فشل حرب غزة على الجيش ومنافسيه السياسيين في الداخل عبر ضمهم إلى مجلس الحرب.
وفي أثناء محاولة عبد الملك الحوثي الاستثمار في التهديدات الأميركية والبريطانية بتوجيه ضربة لليمن، واستثماره في التأييد الداخلي لغزة والذي تعدى مناطق سيطرته، دعا إلى خروج “جماهيري مليوني” لتوجيه رسالة واضحة بالتفاف الشعب حول قيادته، وتأكيد شرعيته في الداخل، وتعزيز موقفه التفاوضي في نزاعه مع السعودية فيما يتعلق بوقف إطلاق النار وتخفيف الحصار على ميناء الحُديدة ومطار صنعاء. وهو ما يفسر إعلان رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات عيدروس الزبيدي استعداده لحماية المصالح في البحر الأحمر مقابل دعم مشروع انفصال الجنوب، وذلك لقطع الطريق على وحدة أهل اليمن الذين أحيت الحرب على غزة مشاعر الوحدة فيهم، وباتت تهدد الجدر التي بناها الغرب وعملاؤه بينهم. ويفسر أيضًا إصدار المجلس الرئاسي الموالي للسعودية بيانًا تبرأ فيه من عمليات الحوثيين واصفًا أعمالهم بأنها “تقوّض الأمن البحري وتعرّض الملاحة الدولية للخطر”.
ولا تخفى أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية للولايات المتحدة التي تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على سفنها التجارية وأساطيلها الحربية بسبب موقعها الجغرافي، إذ يعتبر البحر الأحمر ممرًا رئيسًا لحركة الأساطيل الحربية بين البحر المتوسط والمحيط الهندي وأفريقيا، وصولًا إلى الصين واليابان والمحيط الهادي، وشريانًا بحريًا يُعدّ الأقصر والأقل تكلفة لربط شرق آسيا وأفريقيا وأوروبا، إذ يسهل مرور ١٢٪ من ملاحة التجارة العالمية عبر قناة السويس شمالًا ومضيق باب المندب جنوبًا. بالإضافة إلى أن السيطرة عليه يعطي الولايات المتحدة ميزة التحكم بالممر البحري الوحيد للأردن والسودان وإريتريا وجيبوتي. ولذلك حرصت “إسرائيل” على تسهيل نقل ملكية جزيرتي تيران وصنافر للسعودية بغية تدويل المضيق البحري، وحرصت أميركا وألمانيا والصين وعديد الدول على إنشاء قواعد عسكرية في جيبوتي، وتدويل مسؤوليات أمن الملاحة في المنطقة مع تصاعد عمليات القرصنة سنة ٢٠٠٨ وإقامة القواعد العسكرية في جيبوتي والصومال وإريتريا واليمن لأهمية المنطقة جيواستراتيجيًا وجيواقتصاديًّا.
ومن تتبع السياسة الأميركية منذ اندلاع العدوان الوحشي على قطاع غزة يتضح عدم رغبتها في توسيع نطاق الحرب، وسعيها لاحتواء توجه نتنياهو لتصدير أزمته عبر التصعيد مع إيران وحزب الله في الجنوب اللبناني. إلا أن ذلك لم يمنعها من استغلال التصعيد لابتزاز الدول المتضررة من تداعياته ومخاطر توسعه، تحت مظلة الأحلاف وإدارة الأزمات وحروب الوكالة. فإدارة الصراع في البحر الأحمر يخدم عدة أهداف أميركية منها الاستمرار في سياسة بناء الأحلاف الدولية وتوجيهها، وتفعيل سياسة التنافس اللوجستي من خلال التشجيع على نقل سلاسل التوريد من الصين إلى الهند وتركيا وأميركا الشمالية؛ حيث إن ارتفاع المخاطر الأمنية للبحر الأحمر يجعل تركيا وأميركا الشمالية أكثر جاذبية للدول الأوروبية بشأن العمليات اللوجستية الدولية من شرق آسيا، ويُكسب أهمية لمشروع الممر الاقتصادي بين الهند والخليج العربي وأوروبا، المنافس لمشروع “الحزام والطريق” الصيني، والذي أعلنت عنه أميركا في قمة مجموعة العشرين الأخيرة في الهند.
فالواقع الجيوسياسي يدل على أن أوروبا هي الأكثر تأثرًا من هذا الصراع لاعتمادها المتواصل على سلاسل التوريد الآسيوية وبخاصة الصينية منها، بالإضافة إلى تداعيات الصراع في المنطقة على أسعار البضائع وأسعار الطاقة، والتي ستهدد بدورها مساعي أوروبا لكبح التضخم، وهو ما قد يحرمها فرصة تخفيض أسعار الفائدة التي اصطلت بها شعوبها وقلصت معدلات النمو التي تعتمد على الاقتراض في النظام الرأسمالي. ولذلك أعلنت الحكومة الألمانية عبر المتحدث باسم وزارة الخارجية عن عزمها إيجاد حلٍّ أوروبي بشأن “مهمة بحرية” في المنطقة، فيما قال جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، إنه سيقدم للدول الأعضاء في الاتحاد مقترحًا لتشكيل بعثة للمساهمة في حفظ الأمن في البحر الأحمر. وهذا علاوة على ما يقدمه التحكم بالبحر الأحمر من خدمة لأهداف أميركا تجاه الصين عبر تقويض أهم دوافع نجاح الصين وهي طاقتها التصديرية، ونجاحها في إدارة سلاسل التوريد الاستراتيجية. ولذلك فإن مزيدًا من التصعيد في البحر الأحمر والذي تُذكيه أميركا بمشاركة بريطانية بضرباتها العسكرية على صنعاء و الحديدة وصعدة وذمار فجر الجمعة ، وتحريك مجلس الأمن قبل انتهاء العدوان الإسرائيلي، يصب في أهدافها، والتي منها تقاسم أعباء أمن الملاحة الدولية مع شركائها الأوروبيين. ويتضح ذلك من الهجمات الحوثية الواسعة مؤخرا ، والتوعدات اللاحقة بعد الهجمات الأمريكية ، ومن التحذيرات المسبقة التي أطلقها وزير الخارجية بلنكين أثناء جولته الراهنة في المنطقة، ومن التصريحات المستمرة الناطق العسكري للحوثيين .