كل الثقافة

خماسية لوحة جدارية

الجرس

شارك

خماسية لوحة جدارية

الجرس

أ. حمزه ابوخالد

أنَّ الخشبُ أنينَ العجوز المتعبِ وهو يطبق الباب خلفَه ليغادر البيتَ على عجلٍ لحظةَ توقفَ طوفانُ المطرِ الغزيرِ… وعلى صوت ألأنينِ تَقَدَّمَ بخطواتٍ يُسابِقُ بها الزمنَ بخطى تحملها قدمان قويتان وقامة رشیقة لشابٍ جرئ مغامرٍ يجتازُ طريقاً طينياً لزجاً وصعباً تعوَدعليه ، طريقٌ تعترضه بركٌ صغيرةٌ وكثيرةٌو عفنةٌ اعتادَ عليها أهالي الحي حيث تختلطُ فيها مياهُ الصرفِ الصحي بماء المطر الذي تجمع إثر ليلةٍ غضبت فيها السماءُ فأثقلتْ بمطرِها القادمِ والمتراكم الذي يحملُ زخماً من الغيوم وكأنها تجمعت منذ عشرات السنين فخنقت وحجبت السماء ثم جاءت اول المساء لتسقط الأوراق الخريفية الصفراء من الشجر التي تمردت ولم تقبل السقوط مع بدايةِ الخريفِ وأفتتاح المدارسِ كما أنها أنزلت تلوثاً عائماً وملتصقاً بسطح السحب السوداء فوق المدينةِ، تلوثٌ عائمٌ ودائمٌ ناتجٌ عن عملياتِ استخراجِ نفطٍ زادت غلظته عن الحدِ المجازُ، ضمن المقاساتِ الرسمية ِ العالمية ِ بحيث أصبحت غيوم الاهواز ُ المستودع العالمي المميز لتخزين السم القاتل، اوالمدينة ُ التي تتصدرُ القائمةُ ألأولى في مقياس التلوثِ البيئي العالميٍِ ولا شك انها قد دفعت بالآلاف الأشخاص الذين اختنقوا اول المساء و باتوا يشكون من ضيق التنفس إلى المستشفيات ، انه لحادث مرعب الذي يفاجئنا في بدايات كل الأمطار ويأخذ منّا ضحايا
كانٓ يُهرولُ و يقفزُ فوقَ الصخور وألأشياءِ وسطَ البركِ المائيةِ ويتنفسُ من الروائح العفنة المتبقية حتى الصباح، هذه التي كان لابد منها وسط هذا التلوثِ القاتلِ وتهرولُ أفكارهُ معهُ متناغمةً مع سرعةِ خطواتهِ وبطئها وعلى مطباتِ الطريقِ وموانعها لترسم رقصاً جديداً ملحنةًموسيقى تتجاوز سرعةِ أغاني (الرپ) فتولد افكاراً مكتظة تحملُ لغةِ الشعرِ صوراً تُحلِّقُ مع اسراب الطيور احلاماً.. يصبح فيها دكتوراً صيدلانياً وكأنه اكملَ فيها اعظم روبوت بدأه في صغرهِ وبرمجهُ على جزءٍ من جسم الإنسان يعمل على تشخيصِ الأمراضِِ بسرعة البرق ويساعد في مراقبة تأثير الدواء إلى جانب الطبيب الأخصائي و لحظةٍ بلحظةٍ حتى العلاج القاطع ليوقف وتنتهي بذلك مجازر الموتِ في المستشفياتِ الحكوميةِ مثلما قُتلت امه التي أصيبت رئتها بتلوثٍ بيئيٍّ لم يشخص إلا بعد فوات الأوان وعند الطبيب الشرعي..
راح يراقصُ تلك الأحلام كما تراقص الأمطار أوراق الأشجار الخضراء المتبقية في اول الخريف مداعبةً قطراتها وجوه الصبايا بنات المدارس اللواتي حُرمن من الإختيار، تغسل دموعهن وترسمُ الابتسامةَ على وجَوههن وهن يتراكضن للوصول إلى أبواب المدارس..
سوف أنجح في مشروعي التجاري وأسخّر سوق الحلويات والمأكولات وأتفوق على اكبر مراكز التسويق الألكترونية، انتزع الشغل للشباب العاطلين عن العملِ انتزاعاً واستثمر ألأرباح في تنفيذ أفكاري داعماً اختراعاتي في إنتاج الماء الصالح للشرب من الهواء ؛المشروع الذي طلبه مني عزيز كريم ملهم وكذلك مشروع تحلية المياه من الخليج بأقل كلفةٍ ولن اجعل هذه الأفكار والاختراعات تموت في حافظة الحاسوب..
ضاق به الوقت والمسافةَ وخيم على ذهنه دخانٌ من الافكارِ والتحدياتِ
.. ماذا لو لم أصل ومعي اصطحب ( جليِّل ..كنت احب ان اناديه مثلما يناديه اهل حارته (لشكر آباد)*1وهم يصغرون اسمه على الرغم من انه كان شجاعاًومتمرداً) وندخل الصفَ قبل المدرس؟
.. كيف نتحاشى تنمرهِ وضربهِ المبرحِ الموجعِ بعصاه التي يقول أنه أورثها من (يزدجر)*2 ولم تفارقه أبداً..؟..
.. من لم يعرفه من تلاميذ واهالي؟
….مع وصوله اول الدوار قادماً من حارته رفيَّش أشتدَّ هطولُ المطرِ وسبقهُ صوت رعدٍ مهيبٍ برقهُ يخطف الأبصار ، كأنه ثورة براكين اختنقت منذ عهود حبست ألانفاس او إنفجار قذائفٌ لدبابات وطائرات وصواريخ صهيونية أمريكية انقضت على خيم واطفال بقطاع غزه ودفنت آخر الأعداء لها تحت ركام الأحياء السكنية ، ثم راح الطوفانُ يعرقلُ السيرَ فاسرعَ واحتمى بنفسه كاستراحةِ محارب الى جانب بائعة السمك وهي جالسة تلتف بعبائتها السوداء الفضفاضة وتحمي رأسها بعصابتها وقد زيّن الوشم الأخضر محاسن وجهها وكأنها تريد أن تقول على أنها احدى ملكات عيلام أو سومر جائت لتعرض زيّها وحليّها وأوشامها لتنافس اشهر أسواق العالم ، وراح مغموراً ملتصقاً بجدارٍ بيتٍ من الآجر المربع القديم على قرار آجر زقورة السوس*3 وامامه على اليمين في منتهى الزقاق إلى الدوار بائعات بعبائاتهن السوداء وقد التصقن ببعضهنَّ البعض يتمايلنَّ و يتغنجنَّ ، علت قهقهاتهن ومزاحهن على الرغم من تدافعهن والتصاقهن بالجدار خوفاً من رذاذ المطر، جالسات يحضننَّ بضاعتهنَّ وهنَّ يبعن الحليب والقيمر و.. وهناك زحمة من باعة الخضار يتشاجرون قبل الأصطفاف في اول الصباح
يعلو البيت سقف تعدى الجدار قليلاً نحو الشارع واخترقته مزاريب احتدمت و توالت واشتدت فيها دوافق المیاه المنبعثة من أسقف البيوت وكأنها أرادت ان تزفر الآهات وتناغم صوت الباعة وعجلاتهم المنهكة.. فتح حقيبته المدرسية وأخرج كيساً بلاستيكيا البس به رأسه كما الصبية والصبايا وفجاُةً وامامه في وسط نصف دائرة الدوار الكبير الخالي من اي خضرة القسم المحدد للسوق من البلدية، أشتد الشجار وراح شرطيٌّ بالضرب على رأس احد الباعة بهراوته القاسية ، ولم يدم طغيانه واعتدائه حتى ظهر جليَّل وباغته متصدياً له بضربات سريعة قاضية القته على الأرض. شرطي أصبح مهاناً ومدعى للسخرية، فسارع ماجد الذي شاهد المنظر على مقربة منه و هم نحوه ثم امسك بيده وأشار اليه بالفرار وهويسمع كناية احد الاهالي بصوت عالٍ خلفه طغى عليه البهت والتعجب:
(ولكم شنهي های..جليِّل بن حويزي طلع من قبره..)*4
ركضِ الإثنان متموجان كسطحِ البحرِ الراقصِِ بهياكلهما الرياضية الرشيقة الجميلة فوقَ المطباتِ، انهما كانا يبهرا كل الفتياتِ دون قصد..
اجتازا بسرعتهما كعدائين شارع أبي مسلم الذي كان يعج ببنات المدارس وتركا خلفهما حي (لشكر آباد) الذي بقت معالمه تحتفظ بشكل وتفاصيل علم دولة عظمى وكأنه كابوس جاثم يعذب الأهالي..
مر القطار وسط مطر شديد فاجتازا السكة الحديدية ..
أزداد التحدي في أفكارهما :
.. لالا سوف نصل قبله.
.. سنكونُ اول من يُرى
.. سنقود المشهد حتى النهاية
.. إلى متى نتقبل الكذب؟
.. نتقبل تزييف اللغةِ والتاريخ؟
.. إلى متى نبقى دون إختيار؟
.. نبقى أسرى لثقافة الكراهية؟
.. سنسبقهُ ونغني مع زملائنا جهاراً وبصوت عال مرثيتَه ألأبديةَ…

خَفتْ شدةُ المطرِ مَعَ اقترابهما من المدرسة.. رحلةٌ أصعبُ ما فيها كان انتظار ُ مرورَ القطار. وبعد اجتيازهما المسافة المتبقية بملابسهما المبتلة مسرعين ومن بعيد وقعت عيناهما على حشد من الطلابِ الذين كانوا يتدافعون لدخولِ واجتياز البوابةِ الحديدية الضخمة المتصدئة للمدرسةِ التي لا تقلْ قدمتها وتهرئها شأناً عن بوابة سجن باستيل هذا السجن الذي كان يطفي ما في داخله من العقول ويميتُها.
يقف عند البوابة عدد من الطلاب المؤتمرين يستوقفوا التلاميذ كالعادة…
جاء صوت جرسُ المدرسة يرن وهما على أطرافها فتنفسا الصعداءَ واحسَّا بالراحةِ وألأمان ..
__________
1_ لشكر آباد: تسمية فارسية لحي يقع في وسط مدينة الاهواز، يسكنه قاطبةمن العرب اطلق عليه الاهالي، اسم (حي النهضة) واول من سكنه هم البريطانيون أثناء الحرب العالمية الثانية وكان مخطط الحي بشوارعه منذ البدء ولا يزال على شكل العلم البريطاني، لم يتغير.

2_ يزدجرد :
احد ملوك العهد الساساني.

3_ زقورة السوس :
تقع في مدينة السوس او ما يقال عنها اليوم(شوش) وتقع على بعد عشرات الكيلومترات شمال شرق مدينة الاهواز.. وهو احد معابد الحضارة العيلامية.

4_ ولكم شنهي هاي.. جليَّل بن حويزي طلع من الگبر :
جملة تعجب باللهجة المحلية تقول هل يصدق ان جليَّل(شاب قوي يستنجد الضعيف ضد المعتدي، قتلته سلطة الشاه المقبور) قد خرج من القبر؟!!!

كاتب من الأهواز

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى