خماسیة لوحة جدارية: لوحة لم تسقط بعد
قصة قصيرة
أ. حمزة ابوخالد
في نشوة رذاذ المطرِ المصاحب للنسيم العذب المريح سارعَا قبلَ وصولهما بوابةِ ألثانوية باهتمامٍ متناهٍ بالتخلص من الطينِ ألعالق، تارةً بضرب حذائَيهما ببعضها البعض وتارةً أُخرى بجرهما الواحد تلوَ الآخر، على أجسامٍ صلبةٍ في طريقهِما ،هكذا كان حال ماجد يفعل للتخلص من الطين بجد وحماس، ثم ترى جليلاً يفعل كذلك دون أن يسأل بسرعة وبنفس الحماس في كل خطوة يخطوها معه ، دون أنْ يستطيعَا معاً ألخلاصَ منها كلها، يشدهما ذوق التحدي والتغلب على الزمن.. في النهايةِ أقتربا من بوابة ثانويتهما التی كتب إسمها في الأعلى (*دبيرستان پسرانه سید جواد طباطبائی*)*1
وبعد الوصول إلى البوابة استطاعا العبور وسط الزحام وألإفلات من طابور الإنتظار والمراقبة… فقد كانا مضطريَّن والوقت بدا ضاغطاً جداً ولا يحتمل التأخير. جميع الذين اجتازوا البوابة كانوا يدخلون صُفوفَهم دون اصطفافٍ،. حتى المدرسين هم أيضاً لم يخرجوا إلى ساحةِ ألمراسيم، فلقد ألغى الطوفانُ الممطرُ المراسيمَ الصباحيةَ بالإجبار.
دخلَا صفَهُما في لحظة امتلأ الصفَّ ولم يتسن او يتسعَ لهما أَنٰ يأخذَا محلَّهما المشترك في الرديف الثالثِ القريب من النافذةِ الكبيرةِ إلى اليمين من الطلاب وخوفاً من المدرسِ الذي كانت تفصله عنهما خطوات، دفع كل واحدٍ منهما ليأخذ مكاناً له على عجل، فراح جليل الى المقعد الخلفي ورأى ماجد نفسه في المقعد الأمامي مضطراً مقابل طاولةِ المدرس والى جانب زملائِه دون معارضة ،ٍ لا بل رَجَعَ احدُهم إلى الخلف ليفسح لهُ المجال مسرعاً.
هكذا ودون قصد رأى نفسه يقف على طرف مقعد خشبي طويل يسع لأكثر من شخص واحد يتصل من الأمام بدرج مفتوح وسطح يكتب عليه الطلاب..
كان يبدو محرجاً او ربما شعر بأنه يتصدر الجمع بشئ من العفوية في مهمة خطط لها مع رفاقه و اصبحت الآن تحتم عليه تقبل المسوُلية ألأولى فيها ،لقد لاقت فكرة اللوحة وتنفيذ اجزاءها على جدران الصف كل القبول والحماس عندما اقترحها كونها كانت تحمل وتعكس افكارهم ومشاعرهم والأكثر فإن المهم فيها إنها قد كسرت الفرقة او الهوة والتمييز المصطنع بينهم، أضف إلى ذلك حب الجميع له، لصدقه ولأوصاف شخصيته الإنسانية ،مقامه العلمي ، شكله ، قامته الرشيقة و معاني وجهه الرجولي الجذاب الذي لم تفارقه البسمة والهدوء .. لا بل ان الوعي النامي الجديد في عصر التواصل الاجتماعي كان سلطان اللحمة والاتحاد والتفاني من أجل الآخر … كان ونحن في عصر التكنولوجيا الحديثة وبالرغم من صغرسنه خبيراً في بعض أجهزتها وبرامجها، في الذكاء الإصطناعي، في الحاسوب و هندسة البرمجيات ولغات البرمجة… وفي هذا الإختصاص وقبل ان يدخل الثانوية احتل المرتبة الأولى في احدى سباقات الخوارزمي العلميه ، على مستوى كل إيران.
وقد شاع على أن له أصدقاء في اوساط النخبة، اساتذة
الجامعات في طهران في فرعي الفيزياء و الرياضيات حينما حصل على شكر وتقدیر من بعضٍهم في كتابهم الذي طبعته ونشرته شركة الأمازون عام 2019 م في موضوع علمي نقدي يهتم بنظرية العالم إينشتاين…
اوسمته جعلت منه مرجعاً علمياً مقبولاً وموثوقاً كلما رغب الطلاب وحتى أساتذة مدرسته في الإستفادة والسؤال.
عادةً كان ينتظره الطلاب في الوقفة الصباحية، وبعد قراءة آيات قرآنية من الذكر الحكيم عن ظهر قلب، يستمعون إلى اشعاره او غيرها من التي حفظها…
يقدمه ألأستاذ المشرف في المراسیم الصباحية على أنه حافظ للقرآن الكريم.
الكل كان يريد ان يكون ماجداً قدوة له ومثالاً للعلم والأخلاق والأنسانية، خالية من كراهية مقصودة أصر على زرعها وترويجها مدرس اللغة الفارسية .
لملَم جسمَه كمن يستعد على حَلبةِ مسرحٍ للتحدي، فَوضَعَ أشياءَهُ على سطح الطاولة المزدحمة بالخطوط المنفعلة الملونة والسوداء والمحفورة بعضها بسرعةٍ، تلك المعبرة عن مشاعر اجيال من التلاميذ، ثم راحَ يصطفُّ على عجل مع زملاءِه يقف الى جانبهم، رابط الجأش ودائم الصمتِ عربياً يخفي شيئاً مثيراً بحجم ما اخفاه قائد الثورة الجزائرية وهو يستلم جائزة افضل ضابط في الجيش الفرنسي ساهم في قمع وقتل الثوارالجزائريين . .
وحرصاً على أن لا يُحدثُ صوتاً يعرّض به نفسه والآخرين للضرب والتنكيل، كان قلقاً من الطينِ المتبقي الذي تركَ آثاراً لكل خُطوةٍ خطاها خلفَه وهو يدخلُ على ارضيةِ الصفِّ التي أصبحت بفعل المطرِ وما حملته أحذية الطُلاَّب كأنها مسرح للتزلج…
التصقتْ اجسامهُم ببعضها في مقاعدَ حشر الطلاب فيها لدرجةِ بدا انهم يتنفسون زفير صدورهم في جوِّ ممطر خانق كل ذلك فقط لأداء التحيةِ الصباحيةِ بزيٍّ لم يكن مُوحداً كما في مدارسَ أخرى حيث اختلفت فيه ألألوان التي اذلها الغسيلُ وتفاصيلٌ أنهكها الزمن…
وحينما استقر المدرس بقاَمته يتباهى ببذلته الرسمية التي لا يملك مثلها أحدا من أولياء الطلاب، رافعاً رأسه، أمامهم بعيونٍ تبحثُ وتتأمل دون أن تلاحظ جمهور ألأسرى الواقف ، الماثل امامَه، هولاء الذين كانوا ينتظرون الإذن بالجلوس، عاود وكمن أفاقَ ليكمل متابعةَ ما كان قد شاهده في لمحة بصر حينما دخل الصف …
في الوهلةألأولى لم تلفت نظره اللوحةُ المخطوطةُ أمامه بحروفٍ خطت بسبك يحبهُ هو كثيراً وشعر لشاعرٍ اسطوري مغرمُ به ويردد اشعاره في كل فرصة يستغلها اويصنعها ليفتخر ويتعالى به على أولئك الذين ينتمون الى اقوام أخرى حتى التجريح…
وقد تميزت اللوحة المرسومة للإثارة كأنها تدلت معلقة بمسمار واحد على الحائط المقابل له، إنما راح يحدق بأخرى كبيرةٍ فيها زخم كبير من الرسومِ والعبارات التي ملأت الحائط على يمينه ، صورتحركت فيها الأفكار والألوانُ لتشكلُ تكويناً فنياً متماسكاً.
لوحة جدارية اجتمعت فيها إبداعات فنانينَ من طراز ينسجم مع الواقعِ والعصرِ وقد ارادتْ ان تفصحَ عنْ افكارٍ مريضةٍ باشكالٍ واساليبَ مختلفةٍ بعضها تراجيدي وآخر كاريكاتوري غير مألوف ودون أن تلتزم بمدرسةٍ فنية معينةٍ لكنها سعت لتجسد افكار وآهات واحلام شبيبةِ زُرع في عقولها اليأس بمنهاج مدروس ، مريب وقاتل ، فانفجرت متمردة على هذا اليأس بتعبير تشكيلي في يوم تاريخي..
راح المدرسُ كخبير مهتم وناقدٍ في الفن يستكشفُ الأسرارَ المخبأةَ وراءَ رموزِها وهو يحاولُ تمالك اعصابِه واظهار الهدوءِ دون جدوى.. انتابهم الرعب وهو يحدق ويزيدُ تمعنه بوجه مكفهرٍ ، فخفقت القلوب وما عاد الطالب المتصدر يحتمل خوفه وقلقه على الآخرين الذين كانوا يترقبون تلك اللحظاتِ وذلكَ الموقف بحذر.
تراجع قليلاً وهو يضع ُ اشیائه على طاولتهِ وكان لايزال يبدو غارقاً في التفكير، وبعد ان تأكد من وجود ماجد وهو يرميه بنظرة تنفر و كره، استقامَ بقامتهِ رافعاً رأسه هذه المرة ليقرأ فجأة ما هو امامه بدهشة وامتعاض ، ثم تمعنٍ وبسرعة البرق، الی اللوحة المرسومة تلك التي وقع احدُ مسماريها فتدلتْ. وبقيتْ هكذا لتكشف خلفها عن سرٍّ ظلَّ لعشرات السنينَ مختبئاً، شعار او رمز عالميّّ ظهر بلونهِ الحالك السواد ، وكان معروفاً على إِنَّهُ رمزٌ للنازيةِ وشخص هتلر،، الأمر الذي هز (آخوند زاده) مدرسنا الموقرفجأة، فاحمرَّ وجههُ كمن ظهرتْ وكشفت عورتُه وما عاد بالإمكان التستر عليها، ابعدَ النظر هارباً من الشعار المرسوم إلى اللوحة وهو يحني رقبته ليقرأ :
( *بهرام *
*به نزديك شنگل فرستاد كس*
*چنين گفت أي-کای- شاه فرياد رس*
*أز آن لوريان برگزين ده هزار*
*نر و ماده بر زخم بربط سوار*
*فردوسي*..)*2
وهو يقرأ بصمت وبشفتيه ولم ينتهِ بعد ..فجأة انفجر بصوت عالٍ لائماً، هائجاً، متسائلاً.. راح في حالةٍ من التوتر و الهستيرية.. مخاطباً الجميع ، وهل المقصود من هذه الرسمة الهزیلة.. أن النازية هي الفكر الذي يقف خلف فردوسي واشعاره ويغذيها؟؟؟ ، وهل هي التي كانت المصدر الذي يزوده بالتاريخ؟؟ وجعلت منه او اتخذته جسراً تستند عليه في بناء كل ما نحن فيه؟؟؟…
أتى الجواب من البعض دون انتظار ، صيحة تشبه تلك التي تأتي فجأةً عندما يُسجِّل فريقاً لكرة القدم هدفاً … كان الرد قوياً، صوتاً واحداً محكماً او رعداً صاعقاً :
*نعم* . . .
أهتزت أركان شخص المدرس وفقد توازنه ثم راح متوتراً مرتبكاً يخرج عصاه من حقيبته وهو يصيح ويعربد ..*من قال نعم*؟
وهو يهم ویهدد بالعصا ظنا”منه أن كل الطلاب كانو عرباً، ماضياً في عربدته واظهار قدرته بحركاته الغير لائقه به كمعلم ، وإذا بصوتٍ ثائرٍ يعلو صوت الرعد والمطر يشق الخوف بلهجةٍ لورية صريحة و مفهومة، صوت موج عاصف يثلج الاعصاب ويدخل نفساً عميقاً منعشاً في صدور كل تلامذة الصف ، ملفتاً انتباه و نظر المدرس المندهش إثر هذا الانفجار و الظهور المفاجئ الذي جاء ليواجهه وجهاً لوجهه بقامة ثائرة تمردت تواً على سن المراهقة لتقول وتعلن بقوة واعية انه هو من قال: (*نعم*)… رافعاً التهمة عن الآخرين ..
يستمر في سخطه وهو يتقدم بخطى ثابته نحو الامام ممسكاً بحقيبته المدرسية ، رافعا صوته بمفردات صارخة ضد الزيف التاريخي والإهانة الكبيرة التي جائت زوراً وبهتاناً على لسان فردوسي الشاعر الخيالي *على ان اللور هم قوم من الغجر* راح يقول متذمراً ومعترضاً بصوت مدوي:
كم من العمر عاشَ *فردوسي* هذا حتى يحمل و يأتينا بهذه المعلوِمات وغيرها قبلها وبعدها عن عهودِ غابرةِ وحاضرة وغيرها التي لم لم يرَها حتى التاريخ نفسه لتروجوها بيننا وللعالم … وماذا تريد من قولک حينما توكد دائماً بأن( *لور* ) هي منطقة لازالت في راجستان الهندية وأن قوم اللور تخليداً لملكهم الهندي بنوا مقاماً رمزياً لـ (*شنگلی*) الملک في مدينة بروجن الإيرانية المركز الفعلي لتواجد قوم اللور … ولماذا يحلو لك ان تعرّف بصوتٍ عالي على أن أدوات الرقص والـ (توشمال ) الفلكلورية المتعلقة بنا على أنها متعلقات للغجر ؟… كان يقول ذلك وهو يخطو نحو الأمام بشكل كمن يتقدم ليشتبك في معركة ، اخافنا واخاف المدرس ودفعه الى أن يتراجع خطوات إلى الوراء
دون أي اعتراض لا بل حتى لم ينبس هذا الغريم الذي أصبح ضعيفاً، ببنت شفة ، مخافة من معاقبة هذا الشخص وغيره من اللور باعتباهم الخط الاحمر والسند الاقوى لمعاون المدرسة، فكل واحد منهم اُدخل هنا في هذه المدرسة ليكون بمثابة عصا من أجل ايجاد النظم ضد غيرهم من العرب المشاكسين..
وقرب الباب وهو يفصح عن آخر العبارات الصاخبة، جر نفساً عميقاً في لحظة صمت مهيب، ثم دفع بآهةٍ ساخنة، أدار ظهره غاضباً لـ (آخوند زاده) وخرج منتفضاً من الصف.
___________________
* 1: ثَانَوِية سَيِّد جَوَاد اَلطّبَاطَبَائي لِلْبَنِين
*2: ( أَرْسَلَ بَهْرَام ، إِلَى شَنگل طَلَبًا . .
يَقُول فِيهِ أَيُّهَا اَلْمَلْك اَلْمُنْقِذ . .
اِخْتَرْ لِي مِنْ قَوْم اَللُّور..
وَابْعَث لِي عَشَرَة آلَاف مِنْهُمْ..
*اَلشاعِر فِرْدَوْسِي* )
هذه الابيات منقولة من طبعة موسكو المنقحة و المشهورة، وقد طبعت في خمسينيات القرن العشرين من قبل معهد الاستشراق بالاتحاد السوفيتي معتمدةً على عدد من النسخ الخطية المعروفة، منها 1_نسخة لندن 2_نسخة فلورانس
3_نسخة مسدن 4_نسخة جول مل 5_نسخةبروخيم..
وغيرها .. دراسة تحت عنوان “من هو فردوسي و ما هي الشاهنامة” *للدكتور عبدالله لشكرزاده الميساني*
[ بَهْرَامْ گور : مَلک سَاسَانِي كبَر عِنْدَ مُلُوكِ الْحَيْرَة وَأَخْذ ثقافته مِنْهُم
شنگل : مَلک هِنْدِي عَاشَ فِي عَهْدِ بَهْرَام گور .
قَوْمُ اَللُّورْ : وَيَقْصِدَ قَوْم مِنْ ذلك اَلصِّنْفَ اَلَّذِي یمتلک فنون التسلية و الفرح ليُخْرِجُه وَ جُنُودَه مِنْ اَلْعُزْلَة وَيُدْخِلُهُم فِي اَلْأَفْرَاح…
كاتب من الاهواز
