الخيار الأردني بين إيران و اليمين الاسرائيلي
الخيار الأردني بين إيران واليمين الاسرائيلي
د. حارث سليمان
دأب زعماء الكيان الاسرائيلي على ترداد القول: ” ان الاردن هو وطن الشعب الفلسطيني” بدا الامر من ماض بعيد، فهنالك قصيدة لزئيف جابوتينسكي أحد مؤسسي الحركة الصهيونية تقول «للأردن ضفتان، هذه لنا والأخرى كذلك». يستمر الامر بعد كل ما جرى من أحداث منذ وعد بلفور سنة 1917 حتى نكبة غزة الحاضرة، هذا ما تؤمن به قطاعات واسعة من الأجيال الصاعدة المتّجهة يميناً منذ عقدين من الزمن داخل الكيان، و هذا ما يؤشر اليه انقلاب التوازن السياسي الاسرائيلي لصالح الصهيونية القومية والدينية…
الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، هو فكرة قديمة، وهو خيار غير مطروح علناً، ولكنها ليست هفوة عابرة، ويتعلّقُ أمر امتدادها وتعميقها ثم ممارستها بظروف الصراع الدولي والإقليمي وبتصاعد قوة اليمين الديني والقومي في إسرائيل.
والوطن الذي يعطى للشعب الفلسطيني بديلا عن فلسطين، لم يكن في اي زمان او وقت، خيارا للشعب الفلسطيني او اي حزب من احزابه او اطرافه السياسية، وطبعا لم يكن هدفا او غاية لدى منظمة التحرير الفلسطينية، لا في الاردن ولا في لبنان، والكلام الذي روجته الجبهة اللبنانية خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وما زال يتردد في الشارع المسيحي لتاريخه عن مؤامرة لاحلال الفلسطينيين في لبنان مكان المسيحيين، او على الاقل توطينهم في لبنان، لم يكن الا شائعة كاذبة واختلاقا، تم اطلاقه، تارة لتبرير تحالف الجبهة اللبنانية مع نظام الاسد، واخرى لتبرير تحالفها مع اسرائيل…
“الاردن وطن الفلسطينيين” هذا القول لطالما رددته السيدة غولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل بين عامي 1969 وسنة 1974 ، والتي كانت تنفي بشكل متكرر وبإصرار دائم، وجود شعب يدعى الشعب الفلسطيني، الأمر نفسه ردده اليمين الاسرائيلي على لسان اسحق شامير ثم ارييل شارون قبل انعقاد مؤتمر مدريد للسلام سنة 1991، و المقولة هذه كانت تشهر ردا على اية مطالبة بقيام دولة فلسطينية مستقلة…
قبل مؤتمر السلام في مدريد، تداولت الأوساط الاسرائيلية والدولية فكرتين لحل القضية الفلسطينية الاولى هي “المملكة العربية المتحدة” التي يفترضوا أن تضم كيانا اردنيا على الضفة الشرقية لنهر الأردن وكيانا فلسطينيا في الضفة الغربية وغزة، اما الفكرة الثانية والتي تداولها بشكل خاص شمعون بيريز احد رؤساء وزراء اسرائيل السابق، فكانت كونفدرالية تضم اسرائيل والكيان الفلسطيني والأردن، في مؤتمر مدريد شارك وفد فلسطيني اختارته منظمة التحرير الفلسطينية من ضمن الوفد الاردني…
يشهد التاريخ ان استبدال دولة فلسطين بدولة الاردن كانت حلما وهدفا اسرائيليا حاولت اسرائيل تحقيقه او الترويج له عقودا طويلة من السنين، وان هذا السعي لم يتراجع او تخف وتيرة العمل له، الا بعد حدثين الاول ؛ قانون فك الارتباط بين الاردن والضفة الغربية الذي اعلنه الملك الراحل حسين واتفاق السلام الذي وقعه الأردن في وادي عربة، و الثاني بعد توقيع اتفاق اوسلو بين عرفات ورابين…
بعد انقلاب اسرائيل على اتفاق اوسلو، ونجاح ادارة ترامب في عقد “صفقة القرن” وإتفاقيات ابراهام، التي تسقط حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على ارضه، وتستبدل حقوقه السياسية المشروعة، بعناية انسانية وتحسين ظروفه الاقتصادية، على أساس “السلام مقابل السلام” وليس السلام مقابل الأرض، استعيدت محاولات القفز بين شعارات الوطن البديل بأشكالها المختلفة، من دولة حاضنة، ودولة بديلة، إلى أراضٍ مدارة، وهي أفكار ادرجها جون بولتون، مستشار الامن القومي في إدارة ترامب في مستهل ولايته الاولى، في مقال ( The Three -State Option ) الذي يطرح مفهوم الوطن الأردني الحاضن للأرض الفلسطينية، عوضاً عن دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية والقطاع. فبالنسبة لجون بولتون يوجد فقط ثلاث دول في المنطقة، هي “إسرائيل” والأردن ومصر، ولا وجود لدولة أو حتى كيان فلسطيني. مثل هذا التفكير يبقى في صلب الخيار الصهيوني المتمثل بوطن بديل في الأردن كحل نهائي وترجمة أمينة للمنظور الإسرائيلي للسلام في المنطقة.
وعلى الرغم من الإجماع الدولي اليوم بعد “طوفان الاقصى” على ضرورة قيام “دولة فلسطينية مستقلة” فان الأمر لا يزال بعيدا عن التحقيق، و هو موضوع صراع مرير ودام، في حوار مع ياسر عرفات سنة 1974، قال لي ان الدولة الفلسطينية التي يسعى اليها 《 دونها خرط القتاد》وهو مثال عربي يُقالُ في الشَّيءِ البعيدِ المستحيلِ أو الَّذي لا يمكنُ…
وقد ثبت أن اليمين الحاكم اليوم في إسرائيل لا يمكن ان يقبل بدولة فلسطينية مستقلة، وجوهر الازمة التي تتصاعد اليوم، بين ادارة بايدن من جهة اولى وحكومة نتنياهو ومجلس حربه و أغلبية الكنيست الإسرائيلي من جهة ثانية، هو رفض حل الدولتين الذي يفضي لقيام دولة فلسطينية مستقلة،
ولذلك تبنى الكنيست قرار الحكومة الإسرائيلية المناهض للاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، بأغلبية 99 من أصل 120 عضوا.
لقد فشلت إسرائيل، كدولة استيطانية إجلائية في إلغاء سكان البلاد الاصليين، اي الشعب الفلسطيني، على عكس ما جرى من نجاح في اوستراليا و الأميركيتين الجنوبية والشمالية، والفشل هذا يؤكده تغيير الميزان الديموغرافي الحالي في فلسطين التاريخية، بين النهر والبحر، حيث يشكّل العرب حوالي 51% من السكان، هذا يشمل قطاع غزة والضفة الغربية وعرب اراضي ال 48، بينما يشكّل اليهود حوالي 46%، وهناك 650 ألف مواطن غير مصنّفين، معظمهم وصلوا من الاتحاد السوفييتي السابق وتعلن فئة وازنة منهم انتماءها للكنيسة الأرثوذكسية.
ازاء هذا الفشل وقبل احداث غزة وطوفان الاقصى، سعى اليمين الاسرائيلي الى تحقيق ثلاثة اهداف متلازمة؛ الاول التأكيد على يهودية دولة اسرائيل بحيث يتم اسقاط معايير المساواة والعدالة في دولة اسرائيل داخل الخط الاخضر، لصالح قيام نظام فصل وتمييز عنصري ويستهدف عرب ال 48 ليسلب حقوقهم الثقافية ويحاصرهم ويقيد حراكهم السياسي وحضورهم الاقتصادي.
اما الهدف الثاني فهو تهويد الضفة الغربية وتوسيع المستوطنات فيها، وزيادة اعداد سكانها الى 800 الف مستوطن، وتقطيع اوصال المدن الفلسطينية وتحويلها الى معازل بشرية منفصلة، والاستيلاء على مصادر المياه والأراضي الزراعية …
اما الهدف الثالث فهو تنفيذ الترانسفير عبر المزاوجة بين الاجلاء الجماعي والترحيل الاقتصادي والتهجير القسري… وهو ما لاحظنا السعي الى تحقيقه خلال حرب غزة، حيث تكثفت الدعوات للتهجير والترحيل بتلازم الذريعة الأمنية مع الذريعة الديموغرافية. ولولا الموقفين المصري والاردني الذين رفضا بحزم وقوة دفع أهالي غزة الى صحراء سيناء، لكان مشروع الوطن البديل قد انجز اولى مراحله.
تتصاعد في الاردن تظاهرات التأييد لحركة حماس وفعاليات التضامن مع اهالي غزة، وهو أمر طبيعي وايجابي، فالاردن كدولة مواجهة عربية حتى أيلول 1971 كانت شريكة دائمة في حروب الأزمة الفلسطينية وأحداثها، وقد اضطلعت بمسؤوليات كبيرة تجاه الأوضاع الفلسطينية، وتعاملت بدقة وحرج مع أزماتها وتطوراتها، ويشكل الحضور الفلسطيني في الحياة العامة والسياسية في الأردن عاملا تكوينيا رئيسيا، حيث يتردد ان 70% من سكان الأردن هم من اصول فلسطينية، كما يشكل حضور حركة الاخوان المسلمين وتوأمها الفلسطيني حركة حماس، وزنا كبيرا، لا يمكن تخطيه أو القفز فوق حراكه، لذلك تطرح التحركات الواسعة في الاردن والدعوات اليوم الى الغاء اتفاق السلام مع اسرائيل واقفال سفارتها في عمان، وقطع التجارة معها، على العرش الهاشمي تحديات حقيقية، يضاف الى ذلك تصريحات قوى عراقية في محور طهران، حول استعدادها لتسليح 12 ألف مقاتل أردني من أجل قتال اسرائيل، وقد اكتملت حركة الممانعة في وجه الاردن بتصريح اسماعيل هنية بعد زيارته الى طهران بدعوة العرب الى الزحف على الحدود واختلاط الدماء العربية بالدماء الفلسطينية…
ويتضح من كل ذلك تلويح من محور طهران، لاستبدال خسارة غزة المنتظرة من قبل الممانعة، بالضفة الغربية والأردن، كنقاط انطلاق لقتال اسرائيل، و كرأس جسر لإيران تستطيع من خلاله استدامة اختطافها لراية فلسطين والزعم لفيلق القدس بوظيفة مستمرة لا تنتهي بنهاية معركة غزة…
مرة جديدة تتناغم الممانعة في أهدافها واستراتيجيتها مع أهداف اليمين الاسرائيلي واستراتيجيته، وتساهم في بقر بطن الأردن، وخلق مناخ صدامات واضطرابات في الضفة الغربية، ووضع الكيانين معا، على طاولة المشرحة، فوضى وتمزق وانقسامات، ولن يكون من نتيجة ذلك، سوى تمهيد الاوضاع امام اسرائيل لتنفيذ مؤامرة الوطن البديل في الأردن، وتسهيل عمليات التهجير القسري والاجلاء الجماعي لاهالي الضفة الغربية…
في المرة الأولى ساهمت الممانعة من قطاع غزة، باسقاط اليمين الاسرائيلي لحل الدولتين، فهل تنجح في المرة الثانية في مساعدة هذا اليمين على تنفيذ الترانسفير!؟
ملاحظة: نشر المقال أيضا في “جنوبية”.