عن مؤتمر باريس- الجزء الثالث
عن مؤتمر باريس – الجزء الثالث
أ. يحيى إبراهيم النيل
أثار مؤتمر باريس حول السودان ودول الجوار الذي اختتم أعماله في 15 أبريل 2024 كثيراً من اللغط وردود الأفعال، إذ أن المؤتمر “الذي كان من المفترض أن يكون فرصة لإيجاد حلول لأزمة مدمرة، أصبح في حد ذاته موضوعاً لأزمة الشرعية والتمثيل. ويسلط الضوء على تعقيدات التدخل الدولي في حالات الصراع والأزمات الإنسانية. كما يشعر السودانيون في فرنسا بالقلق من خطر أن يشكل هذا الحدث نقطة تحول في السياسة الخارجية الفرنسية في السودان”، كما ورد في موقع (www.afriquesenlutte.org). ونطمئن هؤلاء بأننا، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، منقسمون أصلاً! فقد ورد في (أخبار السودان) أن الأستاذ نبيل أديب، المشارك في مؤتمر باريس، قد “كشف عن أسباب فشل المؤتمر بسبب تمسك كل مجموعة بموقفها”. وأضاف أن الخلافات بين المجموعات الثلاث المشاركة: (تقدم)، و(الكتلة الديمقراطية)، و(مجموعة الحراك الوطني) جعل المؤتمر يفشل ولا يخرج بتوصيات. وكذلك من أُبعدوا.. ما كانوا ولن يكونوا، إذا دُعوا، على قلب رجل واحد.
وكنا قد أوردنا في الحلقتين السابقتين بعض ردود الأفعال تلك، خاصة الردود الرسمية (وزارة الخارجية السودانية وسفارة السودان في فرنسا). ونضيف لهما تصريح وزير المالية، جبريل إبراهيم، الذي أكد فيه أن الحكومة السودانية “غير معنية بنتائج مؤتمر باريس”. وأتهم فيه الغربيين بأنهم “يربطون العمل الإنساني بالأجندة السياسية”.
إستبعاد “طرفي الصراع” كان أكثر الأمور إثارة للجدل، خاصة استبعاد الحكومة السودانية وما قاد إليه من حديث عن مسألة سيادة الدول والتدخل الخارجي في شئونها، حتى دون استشارتها. وكان هذا مصدر خوف وقلق لدى البعض، خاصة أنصار الحكومة، حتى قبل انعقاد المؤتمر، مثل الأستاذ عادل الباز الذي يرى أنه من بين أهداف اللقاء “تركيز الأنظار على الحرب في السودان وتجاوز الحرب الروسية الأوكرانية وغض النظر عن المجازر التي ترتكبها ربيبة الغرب، إسرائيل، في غزة”
وتأكدت مخاوفهم بصدور البيان الختامي الذي ورد في فقرته الرابعة: “نحثّ كذلك جميع الجهات الفاعلة الأجنبية على الكفّ عن توفير الدعم بالسّلاح والمعدّات إلى طرفي النزاع والامتناع عن الاضطلاع بأي عمل من شأنه مفاقمة التوترات وتأجيج النزاع”، إذ يرى هؤلاء أن المقصود بذلك هو تجريد الجيش السوداني من مصادر تسليحه، لأنها تتم وفق صفقات معلنة، في الغالب الأعم، مع دول وفق بروتوكولات معينة. أما تسليح الدعم السريع فيمر، دائماً، (تحت الطاولة) ولا يعلن عنه بالطبع. وهذا الدعم أكده جوزيف بوريل، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، الذي أقر بأن “الحرب ما كانت لتطول لولا وجود بعض الأطراف التي تسعى لاستمرارها ونفوذ بعض الدول”. وأضاف أن “بعض الدول الثرية تدعم طرفاً وأخرى تدعم طرفاً آخر”.
وتأكد ذلك أكثر حينما أعلنت وزارة الخارجية البريطانية أن “إجراءات صارمة ستفرض تجميد أصول الشركات المرتبطة بالقوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع. وسمّت بنك الخليج وشركة الفاخر، التابعين للدعم السريع، وشركة الصخرة الحمراء للتعدين التابعة للجيش.
وعطفاً على ذكر دعم دول خارجية لهذا الطرف أو ذاك، يجدر بنا أن نشير إلى أن دولة أريتريا قد اعتذرت عن المشاركة في المؤتمر، بعد ان تمت دعوتها مع بقية دول الجوار، في موقف قد يفسر بأنه سعى للحياد، أو تعبير عن عدم رضى من المؤتمر نفسه.
لكن آخرين، مثل الأستاذ محمد الأسباط، يرون أن الحكومة كانت ممثلة في المؤتمر بمشاركة مفوضة العمل الإنساني، سلوى آدم بنية، “التي تعتبر، وفق الاعراف الدبلوماسية، ممثلاً رسمياً للحكومة السودانية. وشارك معها داعمون للحكومة أبرزهم: د. خالد التيجاني، نبيل اديب، د. تيجاني سيسي، وغيرهم”. ووصف استنكار الحكومة عدم دعوتها، مع مشاركة هؤلاء، بأنها “ تناقض فاضح في موقف الحكومة السودانية” تجاه المؤتمر. غير أن الأستاذة سلوى آدم قد أكدت، في فيديو متداول، أنه قد تمت دعوتها بصفة شخصية وليست رسمية”. وقد أعاب الدكتور التجاني السيسي، الذي أقر كذلك أنه قد تمت دعوته بصفة شخصية، هذا النهج وذكر أنهم أوضحوا للمنظمين “الخطأ الذي ارتكبوه” بجعل الدعوات على أساس شخصي “وكان ينبغي ان تكون الدعوة للكتل السياسية والمدنية وليست شخصية”.
وقال الأستاذ عثمان ميرغني إنه “لا يفهم الضجة المثارة حول المؤتمر، فهو فعالية دولية دعت إليها فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي لمساعدة السودان وأهله في التعامل مع الواقع الكارثي، ومن الممكن لمن شاء أن يقبل الدعوة أو يرفضها، ولكن لا يبدو منطقيا أو سويا أن توصم الدعوة بالعار الذي يستوجب مسحه في جبين كل من شارك فيه”. وأضاف: “دعوة الحكومة السودانية للمؤتمر مهمة وتدعم حيثيات تنظيمه. لكن في المقابل عدم الدعوة لا يتطلب رفع صوت الاحتجاج فهذا أمر موكول للجهات المنظمة. وسواء كان تقديرها صحيحا أم لا، فإن الأمر في النهاية لا يمس شرعية الحكومة السودانية ولا يجرح خاطر السيادة الوطنية. بل الأوجب النظر بعين الاعتبار في الأسباب التي أدت لحجب تمثيل الحكومة السودانية والاجتهاد في تجنبها مستقبلا”.
وقد حسم الأمر سفير السودان في فرنسا، الدكتور خالد محمد فرح، الذي كتب: “ما فعلته فرنسا وألمانيا والاتحاد الأوروبي بعدم دعوتهم لحكومة السودان لمؤتمر باريس الإنساني عمل ليس فيه مجال لاحتجاج او شكوى او اعتراض قانوني على الإطلاق لأنه حق سيادي يخصهم وحدهم من منطلق تقديراتهم السياسية والاستراتيجية وتقديراتهم الذاتية لمصالحهم الخاصة وتوجه السياسة الخارجية لبلدانهم في زمن معين وظرف معين حيال هذا البلد او ذاك، او بإزاء هذا النظام او هذه الحكومة او تلك القائمة في بلد ما. ولذلك فقصارى ما رأينا فعله بإزاء هذا العمل أننا أعربنا عن استغرابنا واستنكارنا له باعتبار انه عمل غير اخلاقي وغير لايق وغير ودي (unpleasant)، وينم عن غطرسة وازدراء وسوء نية ولكنه لا يمكن وصفه بانه عمل غير شرعي او قانوني من وجهة نظر القانون الدولي”. وأشار إلى أن وجه استنكار الحكومة السودانية كان: “كيف تنظم مؤتمراً يخص دولة ذات سيادة، ولا تدعو هذه الدولة للمشاركة فيه، على الاقل من قبيل الحرص على ضمان انفاذ مخرجاته، إذا كنت جاداً وليست لك أجندات ومَرَامٍ أخرى غير حشد الدعم لتوفير الاغاثة والمساعدات الإنسانية؟”
وذهب البعض أبعد من ذلك بكثير. فالأستاذ كمال حامد يري في الحرب الدائرة في السودان ” في إحدى جوانبها مصيدة لجذب وإبادة العناصر الشابة المقاتلة لعرب دارفور وتشاد وأفريقيا الوسطى والنيجر وربما مالي. هي حرب تحقق لفرنسا ولحكومات غرب أفريقيا الأفريقانية التخلص من صداع مزمن و [تحقق] الإجهاض المسبق لكل حركات المعارضة المسلحة لقادم السنوات”. ويتساءل: ” ما الذي يجعل عرب دارفور مختلفين عن عرب وطوارق أزواد، الذين سحقتهم فرنسا وقتلت منهم عشرات الآلاف من المدنيين العزل حينما أعلنوا استقلالهم في 2012، وثاروا ضد الإفقار والتهميش والتهجير، حتى يتلقوا كل الدعم وأحدث الأسلحة وتسعى فرنسا وتوابعها لنصرتهم؟
ومن الطريف أنني وجدت على الانترنت أغنية بعنوان “ سمحة الهيبة فوق حمدوك”، كتبت وتم التغني بها بعد مؤتمر باريس، مجاراة لأغنية التراث المشهورة “سمحة الهيبة فوق مختار”، التي كتبت في مختار ود رحمة، ناظر العبيدية.