ضريبة التفاؤل
ضريبة التفاؤل
أ. سعيد الصالحي
منذ أن كنت طفلا صغيرا كرهت بعض أيام التقويم لأسباب مختلفة ولذكريات متعددة، وبت أنقل معي هذا المقت كلما كبرت من عام إلى عام، وحتى إذا حمل اليوم الذي وضعته في قائمتي السوداء أخبارا مفرحة أو أحداثا سعيدة، كنت أربط هذا الخبر أو الحدث في هذا اليوم الملعون، وكأن هذا اليوم قد ختم عليه أبد الدهر أن يكون ملعونا ومرجوما كالشيطان، وكلما تقدم بي العمر زادت الأيام التي تغادر القائمة البيضاء لتزيد صحائف السواد بضيف أبدي جديد، وفي هذا العام اخترت أكثر الأيام سوادا بالنسبة لي للتمرد عليه، ولأثبت لنفسي أن هذا التقييم والتفريق محض هراء، وافتراء على هذا اليوم الطيب المبارك، وأنه قد آن الأوان لأكون أكثر نضجا وحكمة، وألا أسلم نفسي إلى مواقف وتجارب سابقة لا تصلح لكل زمان.
استقبلت النهار متفائلا مسرورا رغم كل ما أعانيه كأي واحد منكم في حياتي اليومية، أرتديت ملابسي وأبتعدت عن السواد قدر ما توفر في خزانة ملابسي من ألوان أخرى مبهجة، وكذلك حرصت ألا أشرب قهوتي السوداء المرة، واستعضت عنها بكوب من الماء، ثم أقفلت باب منزلي ونزلت الأدراج باسم الوجه، وعندما غادرت باب العمارة نحو سيارتي لم أقع في حفرة أو نقرة، وطوال الطريق لم يلوث سمعي وبصري أي مخالفة أو تجاوز، ولم يصادفني مطب أو تحويلة، وصلت إلى عمارة مكتبنا نقرت زر الصعود ودخلت إلى المصعد.
تحرك المصعد نحو الأعلى لبضع لحظات ثم انطفأ النور، وتوقف المعراج وعلقت بين السماء والأرض، لم أجزع لأن اللوحة المعلقة في المصعد أخبرتني بذلك كلما ارتدت المصعد فيما مضى، واليوم علي أن أصدقها وأنفذ التعليمات، ولم أشعر بأن النحس كان يتربص بي في هذه الغرفة الحديدية، وقلت في نفسي: “مجرد خلل فني بسيط وهذه التجربة لن تزيد عن بضع دقائق من الانتظار، وسيهرع الحارس أو أحد الجيران لنجدتي”، مرت الدقائق التي توقعتها ولم يلتفت لصوت جرس الإنذار أي أحد، كنت أقضي الوقت بين القعود والوقوف، ومحاولة الحصول على اشارة الهاتف أو الانترنت لأرسل برقية استغاثة أو اتصال لأنقاذ روحي، كنت ألتصق في الباب لعل الإشارة تنفذ من جهة ما، فالاشارات تعودت أن تنفذ من بين الشقوق، لكنها هذه المرة لم تصل لأن المصاعد مصمصة فقط لانفاذ بعض الهواء أما الترددات والموجات والاشارات فلا مكان لها في هذا القبو المتحرك.
كان الوقت يمر بطيئا، وعمّ الهدوء في كل مكان، فقعدت على أرضية المصعد وأسندت ظهري على أحد جدرانه، وبدأت أتلو ما أحفظ من كلمات الله، وكنت أحرك ساقي وذراعي بين الفينة والأخرى، وكل بضع لحظات أنقر جرس الأنذار بوتيرة لا تشبه سابقتها، كنت أغير مقام الرنين تبعا لحالتي النفسية، ولا أعرف لماذا خيل إلي أن حارس عمارتنا يجلس في أحد المحلات القريبة يحتسي الشاي ويستعرض عنترياته، وأنا حبيس هذه الغرفة كرجال غسان كنفاني، فقلت في نفسي: “يجب أن أتعلم من تجربة أبي الخيزران وأن أطرق الباب بما أن صوت الجرس لا يصل”، اقتربت من الباب وبدأت الطرق والتطبيل وكأنني فنان ايقاع محترف، وشعرت أنني أتفوق على الفنان حسن أنور من الفرقة الماسية، فطبلت كم طبلت ولكن لم أطرب بايقاعي أحدا أو أستفز بشرا لمحاولة انقاذي، واصلت التطبيل وبدأت أغني تارة وأطلق صفيرا تارة أخرى، وكل مواويلي وأغاني لم تجد طريقا إلى آذان المنقذين، أنهيت وصلتي الفنية بالتصفيق لنفسي، ونقر جرس الإنذارلفترة طويلة، وعدت للقعود مرة أخرى على أرضية المصعد.
نظرت إلى ساعة الهاتف المحمول كانت تشير إلى منتصف النهار، لقد مرت ساعات عديدة ولم ينتبه أحد أن المصعد معطل، أو أني لست موجودا في عملي، ولكن أكثر ما شد أعصابي هو تاريخ اليوم، فليس مصادفة أن يكون سوء الطالع ضيفي في هذا اليوم من كل عام، لماذا هذا اليوم بالذات هو الأكثر بؤسا وشقاء في العام؟ ولماذا يتكرر بهذه النمطية حتى أصبح مناسبة تنكس لها أعلام النفس وتفتح لها بيوت العزاء؟ ففي مثل هذا اليوم منذ سنة كاد جرار زراعي أن يحرثني بعد أن فقد السائق سيطرته على ثوره الآلي الهائج، وفي السنة التي سبقتها كانت الكورونا تتسلى بي بالسهر والحمى، وفي السنة التي سبقت الكورونا غيب الموت قريبا لي، فهذه ليست مصادفات، هي أشبه بلعنة تأتي في موعدها جالبة الحزن والغم والحيرة، فقررت الاستسلام لمشيئة هذا اليوم، استجمعت مخزون مفرداتي السيئة، وكلت له الشتائم ولعنته عدة مرات، وبهذا أكون قد اعترفت له بأنه الأقوى وصاحب الكلمة، وأن محاولة التمرد كانت نزوة عابرة لن أكررها مرة أخرى، وبعد اعترافي هذا تحرك المصعد فجأة وواصل رحلته ثم فتح الباب بشكل آلي دون مساعدة من أحد، وكأن المصعد كان ينتظر هذا الاعتراف حتى يتابع الرحلة، فعلى ما يبدو أن هذا اليوم كان يوم نحس المصعد قبل أن يكون يوم نحسي، ولكنه كان يلعن اليوم كلما نقرت جرس الأنذار وانا كنت الذراع التي تنفذ رغبته.